مقامات قتيل الزمان السَهَرْعندي 8/ د. عدنان الظاهر

مقامة 8
شبعتُ حدَّ التُخمة من البحار والسواحل الرملية المترامية الأطراف بل وحتى مرضتُ بسرطان الجلد جرّاء التعرض طويلاُ لأشعة شموس بعض سواحل شمال إيطاليا منبطحاً على الرمل تحت أشعة الشمس الحارقة التي تتخطى الأربعين مئوية أحياناً. شبعتُ من الترف ومن المغامرات وغدوت أكثر ميلاً للإستقرار والهدوء والدَعة في الحياة بعيداً عن الصخب والأضواء الساطعة وأصوات الموسيقى العالية . وعليه قررتُ العودة إلى بلدي الذي آواني وأكرمني وعالجني من عللي وأوجاعي وقد أصبحت مزمنة ومتعددة الأشكال والنوعيات . ف [ يا غريب اذكرْ هَلَك ] !
أصاب تلك العائلة الإسبانية هلع وجزع كبيران . صُدموا جميعاً بقرار مغادرتي والعزوف عن مصاهرتهم . لاذوا جميعاً بصمت غريب كئيب ولم يسألوا كثيراً عن دوافع قراري المفاجئ .  كانوا في غاية الأدب والكياسة وفي ساعة توديعي ومغادرتي المطار بكت الوالدة والكناريتان لكنَّ الوالد لم يبكِ عَلَناً بل غطّى وجهه بمنديل وكان هذا مؤثّراً وكافياً .  قبّلتني النسوة وقدّم الوالدُ لي إكليل ورد جوريٍّ أحمر وأصفر وكانوا يعرفون أني أحبُّ هذين اللونين في ورود الجوري . كان الوداع صعباً حتى أوشكتُ أنْ أفقد السيطرة على نفسي . ليس يسيراً عليَّ مفارقة مّنْ يُسدي لي جميلاً ومن يُكرّمني ويحيطني بعناية خاصة ففي طبع المفارقة عنصر مأساويٌّ  مخفيٌّ أسود ربما يعني الموت ! غيابُ الفُرقة موت . لهذا درجَ المرحومُ والدي على معارضة مشاريعي للسفر ومغادرة العراق . كان دوماً يقول : إذا سافرتَ يا عدنان فسوف لن أراكَ ثانية ! وهذا ما حصل .. سافرتُ سفري الأخير فتوفي والدي بعد مغادرتي بأربعة أشهر فقط ، لا رآني بعد سفري ولا رأيته .
تتنقلُّ برشاقة وخفّة مضيفات الطائرة من كل جنس وقومية ولون ، فيهنَّ التركية والتايلاندية واليابانية والهندية والإفريقية والإسبانية وأخرى مالطية . يتكلمن العديد من اللغات لتأمين التواصل المرن والمريح مع المسافرين . بصراحة ... تمنيتُ أنَّ فيهنَّ واحدة عربية أسألها الماء وحاجات أخرى بلغة آبائي وأجدادي . عندما يجد المرءُ نفسه مُحاصراً بألسنة وأجواء غريبة عليه ينكفئ على نفسه فيعود القهقرى إلى حيث مساقط رأسه ونشأته الأولى . تناولتُ طعامي من يد إحدى المُضيّفات حين كنتُ غارقاً في حزني 
أردد بيت شِعر الشاعر معروف عبد الغني الرصافي :
وإني جبانٌ في فراقِ أحبّتي
وإنْ كنتُ في غيرِ الفراقِ شجاعا
يا غريب اذكرْ هلك . غريب .. أنا غريب إلاّ حين أكون في بلدي الوطن . جرّبتُ وطناً آخر لكني فشلتُ . لم أستطع التكيّف لهذا البلد الجديد لا أرضاً ولا بشراً ولا طبيعةً ولا مناخاً فكيف أبقى . بين الإنسان والأجواء المحيطة به علاقات تأثير مُتبادل فأي معنى للجو المُحيط بي إذا لم أستطعْ التكيّف له ولم أستطعْ التفاعل معه ولا هظمه
وتمثيله ؟
ملاحظة : " يا غريب اذكرْ هَلَكْ " مطلع قصيدة للمرحوم الملاّ عبّود الكرخي قالها لمناسبة موت الملك فيصل الأول وكان هذا المطلع كما يلي :
يا سفينة التايهةْ طرها الفَلَكْ
ماتْ فيصلْ يا غريب اذكرْ هَلَكْ
ولما رحل الملك غازي عام 1939 في حادث مثير للجدل .. قرأ الناس هذا المطلع كما يلي :
يا سفينة التايهة طرها الفَلكْ
مات غازي يا غريب اذكرْ هَلَكْ
بوضع اسم الإبن في موضع اسم الأب وغازي هو نجل فيصل .
مقامة 9
أحبُّ المقام العراقي خاصة بصوتي محمد الكبنّجي ويوسف عمر أما الباقون ... فليعذروني !
هل تحبُّ مقامات بديع الزمان الهَمَداني ؟ بل أهوى مقامات قتيل الزمان ، زماننا قتّال وكاسرلا يرحم بل لا يعرف للرحمة معنىً وهل يُبدعُ قاتلٌ سوى صنعة وهواية القتل ؟ أنا اليومَ في بغداد فهل زماني في بغداد بديع ؟ سأوجّهُ هذا السؤال لعبود الكرخي بطل قصيدة المجرشة وللرصافي صاحب قصيدة " إِليكِ يا بغدادُ عنّي " ثم للجواهري الذي تغنّى بدجلة الخير فطرب وأطرب لكنه بقيَ أبداً ظمآنَ مائها :
إني وردتُ عيونَ الماءِ صافيةً
نبعاً فنبعاً فما كانت لترويني

  وماذا عن السيّاب الذي سبوهُ وسبّوهُ وسيّبوهُ على جسر ؟ السياب موّالٌ آخر مختلف ، هواه مع ماء آخر هو ماءُ  نهر بويب وقرية جيكور .. إنه بصراوي وانا اليوم في بغداد.
" جيف انتَ بغداد وآنةْ من الجنوبْ ؟ " .. من أغنية كانت زميلاتنا تغنيها في سفراتنا الربيعية إلى منطقة الصدور والفلوجة والرمادي وبحيرة الحبانية وسدة الهندية . الكلام فيها عن حبيب يتكبّر على مَنْ تُحبه لأنه من العاصمة بغداد وهي فتاة جنوبية . " جيف " تعني كيف أي لأنني جنوبية ... أو بسبب كوني من جنوب العراق . كان مطلع هذه الأغنية يُثير حفيظة فراشي الأقسام الداخلية في الكلية وكنا نصطحب البعض منهم لمساعدتنا في بعض شؤوننا . إنهم طيبون ومحافظون لذا كانوا يشعرون بالكثير من الحَرَج حين يسمعون طالبات الكلية يصدحن فَرِحاتٍ مثل صبايا القرى العراقية بأغنية تقول :
عالهُبّ الهُبّ الهُبْ
والهوة شال الثوبْ
 حسنك وجمالكْ
 علّمني دروبْ دروبْ
...
هذه بعض مقامات قتيل الزمان وهي تنافس مقامات الحريري والهمداني بل وقد تكون أفضل منها في الأقل لأنها مقامات عصرية مثل قصائد الشعر المنثور التي لا يطيقها الفراهيدي ولا تطيقها بحوره ولا راكبو هذه البحور أو البحار . علّمني قتيل الزمان كافة الدروب درباً دربا فيا له من قتيل حيٍّ كما قال ديك الجن الحمصي في حبيبته القتيلة :
عهدي به ميْتاً كأحس نائمِ
نعم ، قتيلي الذي فيَّ نائمٌ لا ينام .
وماذا تعرف من مُقامات الكوفاوي الشاعر المتنبي ؟ إنها كثيرة تُعدُّ ولا تُحصى . ما أقام في بلد أو مكان إلاّ وارتحل على عَجَل . أوَليس هو مَنْ قال :
فما حاولتُ في أرضٍ مُقاماً
ولا أزمعتُ عن أرضٍ زوالا
على قَلقٍ كأنَّ الريحَ تحتي
أوجهها جَنوباً أو شَمالا
لمقامات المتنبي مزايا ومواصفات مُفرطة في الخصوصية منها على سبيل المثال مُقامه بأرض نخلة حيث قارنه بمُقام عيسى ابن مريم بين اليهود :
ما مُقامي بأرضِ نخلةَ إلاّ
كمُقامِ المسيحِ بين اليهودِ
ومنها المكان الذي ربطه بالخيول فرسم لنا صورة مثيرة مُتحرّكة بل وكأنها طائرة في الفضاء :
أعزُّ مكانٍ في الدُنى سرجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ
جمع الشاعرُ في هذا البيت كُلاًّ من المكان والزمان ليأتي بعده بألف عام فيزيائي جمع هذين البعدين معاً وأسماهما [ الزمَكان ].
إسمعْ يا متنبي : إتهمك بعضُ السفهاء أنك ضدَّ الثقافة ! فليقرأ هذا البعضُ هذا البيت الشعري جيّداً وليقرأه مِراراً [[ وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ ]] . فيا أيها السفهاء ... ما معنى كتاب ؟

CONVERSATION

0 comments: