الحالة الثورية التي تسود المجتمعات العربية، هي تعبير طبيعي لظاهرة كلاسيكية في الفكر السياسي، حين يصبح نظام الحكم غير قادر على استمرار فرض سيطرته، والجماهير تفقد قدرتها على تحمل المزيد من النظام السائد الذي لا يتغير ولا يغير، لا يتقدم ولا يقدم، ولا تبدو بارقة أمل بمستقبل مختلف ، أو بتغيير ديمقراطي للنظام.أو بفرص جديدة أمام المجتمع.
البعض يرى بهذه الظاهرة الثورية، بداية عصر التحرر العربية، أو الثورة الحقيقية التي غيبت عبر مهدئات على شكل انقلابات عسكرية لم تقد إلى أي مكان.بل عمقت أزمة الإنسان العربي، وقيدت تطور المجتمعات العربية، وشلت حركتها للحاق بالركب الإنساني المندفع بسرعة البرق نحو التطور في جميع مجالات الحياة..
يمكن أيضا وصف الحالة العربية بمرحلة "ذوبان الجليد".. جليد الخوف ، جليد الخنوع ، جليد القبول بالاستبداد، جليد "انتظار غودو".
المجتمعات العربية واجهت إرهاصات فكرية وسياسية مختلفة ومتنوعة منذ عهد محمد علي باشا، وبداية عصر التنوير، الذي عصفت به الانقلابات العسكرية، تحت صيغ قومية لم ينجز منها أي شيء.. وعطلت انتقال العالم العربي إلى ذروة عصر التنوير. بكلمات أخرى اسقط عصر التنوير العربي، وترك العالم العربي أمام فجوة تنويرية آخذة بالاتساع.
المستهجن والشاذ أن يستمر الحال في جموده لهذه الفترة الطويلة جدا، رغم التغيرات الدولية المتسارعة ، عبر قفزات تطويرية جعلت الفجوة بين الدول المتقدمة والدول العربية تقاس بعدة قرون من التطور، بل دولة مغتصبة للأرض العربية ، وعلى مساحة ضيقة شبه صحراوية، أنجزت ما جعلها تتفوق علميا وتكنلوجيا واقتصاديا وعسكريا على دول العالم العربي مجتمعة، لدرجة الإحساس وكأن المجتمعات العربية، تتبع كوكبا آخر،أو هي مقيمة دائمة خارج التاريخ البشري.. وما يجري من تقدم في العالم، وتحت انفها مهددا كل مصالحها وأمنها، في مجالات حاسمة وكثيرة التنوع، أمر لا يعني أنظمتها ولا سلاطينها.وذلك بدءا من الاقتصاد، والرفاه الاجتماعي، والوعي الاجتماعي، والوعي لحقوق الإنسان، ومساواة المرأة. ولم يكن يخص أنظمة الحكم العربية ، تحول الأنظمة في دول العالم قاطبة، إلى مؤسسات ترعى شؤون مجتمعها وتقدمه الاجتماعي، وتعمل بطاقات كاملة على انجاز أكثر ما يمكن من الرفاه والتقدم في خدمة المواطنين، وضمان أمنهم وحريتهم ومستقبلهم، بحيث أضحى الوصول إلى السلطة صراعا بين من يقدم خدمات أكثر، من يطور المرافق الاقتصادية ويديرها أفضل ، ويمنع الأزمات الاجتماعية والاقتصادية ويلبي المطالب المتزايدة للمجتمع والخدمات التي يحتاجها الإنسان في المجتمع الحديث.
لم يعد المقياس في الأنظمة الديمقراطية لنوعية الحكم ، يسار أو يمين، كلها تتنافس لتقديم ما هو أفضل وأرقى وأكثر قبولا للمجتمع والمواطن. والصراع بين التيارات هو صراع يتركز بجانب كبير منه ،حول الإدارة الأفضل للدولة والمجتمع والاقتصاد والخدمات والتسهيلات ، وكسب ود الجماهير.
الواقع العربي كان عكس هذا التيار. أي عكس التاريخ الإنساني !!
أنظمة دساتيرها شكلية تحكمها قوانين استبدادية، البعض يسميها قوانين طوارئ، ولكن البارز ليس التسمية، فالدستور يمكن أن يصير طعاما للحمير، ويتغير بناء على طلب "الذين وهبهم الله حق الحكم المطلق". من سيعترض؟ البرلمان؟ وأي مهزلة هي البرلمانات العربية التي شاهدناها بالبث الحي، أشبه بمجموعة مهرجين ومصفقين بلا عقل، إلى جانب الطابع القبلي والعائلي والطائفي لأنظمة الحكم. أنظمة لم تفكر بالمواطن إلا بصفته خادما لجهاز الدولة وللقبيلة القابضة على مصادر الثروة والقوة، لا فرق بين نظام جمهوري أو ملكي.أما الخدمات للمواطن فحدث ولا حرج: بطالة متفشية، تخلف في التعليم وملايين الأطفال بلا حق للتعليم. لا حقوق للإنسان، المرأة مسحوقة، أمية بنسب متزايدة، مستوى حياة في تراجع، فقدان للخدمات الأولية الأساسية، تخلف علمي وتعليمي، تخلف مريع في الأبحاث والتطوير، دول مستباحة كرامتها سياسيا وعسكريا، لا تخطيط للمستقبل، العقول العربية لا تجد أمامها مفرا إلا الهجرة، وخسارة المجتمعات العربية من هجرة العقول تقدر بمئات المليارات من الدولارات سنويا، والأخطر هي الخسارة غير المباشرة من الهجرة والتي تتمثل بعدم الاستفادة من الانجازات التي تحققها العقول العربية لدول الهجرة. هل أقلق هذا الأمر الأنظمة التي أسقطت، أو يقلق الأنظمة اللاحقة بالسقوط؟
مستوى الخدمات الطبية في العالم العربي متدنية، ونسبة الأطباء لعدد المواطنين كارثية.ولكن عشرات آلاف الأطباء العرب ومن أفضل الاختصاصات ، وعشرات آلاف من العلماء تكتظ بهم المراكز الطبية والعلمية في دول العالم المختلفة. من مصر لوحدها يوجد خمسة آلاف عالم من أفضل الاختصاصات العلمية خارج مصر. من يقول أن هذا لا يؤثر على المواطن والوطن ؟! من يقول أن هذا لا يزيد الواقع فسادا وسوءا وفقرا؟!
إن غياب اقتصاد متطور أيضا، انعكس سلبا على الانتماء القومي، لذا ليس بالصدفة أن الانتماءات الفئوية تنامت ، وأضحت الهوية القومية في مراتب متدنية بالمقارنة مع الهوية القبلية والدينية والطائفية والعائلية. هل بالصدفة إذن أن ما يميز الأنظمة العربية كلها صبغتها الفئوية والطائفية والقبلية؟!
تاريخيا تطورت القوميات وأرست جذورها عبر الانتقال من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع البرجوازي – مجتمع الاقتصاد الرأسمالي، فهل يتوقع أحد أي قيمة للانتماء القومي العربي بظل دول إقطاعية طائفية أهملت تطوير مجتمعاتها حضاريا؟! وهل لقومية الفقر قيمة تستحق الانشغال بها؟! وهل الهوية القومية ستوفر رغيف الخبز لأكثر من 70% من المواطنين العرب الذين لا يتجاوز دخلهم دولارين يوميا للشخص؟
المشكلة الكبرى أن النظام العربي لا يرى نفسه خادما للمواطنين. والقوى التي عرفت كيف تحول هذا الواقع الكئيب لصالحها، هي التيارات الدينية الأصولية، عبر استغلال فشل الأنظمة، وفشل اليسار ، وفشل الانقلابات العسكرية، وفشل التيار القومي الذي صور انقلاباته بثورات للتغيير ولم يتغير إلا القابضين على السلطة ، والمضحك المبكي أن أنظمة الحكم الجمهورية، سرعان ما صارت أنظمة وراثية.
إذن الانقلابات العسكرية أخرت التطور الاجتماعي والاقتصادي ، وعمقت القمع والاستبداد لضمان سيطرة الجهاز العسكري الأكثر تنظيما في المجتمعات العربية، على السلطة ونهب الثروة الوطنية..
وهنا نطرح السؤال الذي يشغلنا ويقلقنا: هل الحالة الثورية العربية الراهنة ستحسم نحو التغيير الذي ينشده الإنسان العربي بحسه أكثر مما ينشده بوعيه لمضامين التغيير ومناهجها؟
الثورات العربية هي حادث انفجار الضغط المتراكم. ثورات نظيفة في سموها الإنساني. وواضح إنها ثورات من إعداد وتنفيذ الشباب غير المجند وراء أحزاب وأيديولوجيات ذات مضامين واضحة.انتصارها في تونس ومصر هو تحقيق لمعجزة. والمعجزة الآن أصبحت حقيقة ملموسة وستنتصر في سائر البلدان العربية. المسبحة انفرطت. وانجاز الحرية في قطر عربي سيفجر الاحتباسات الضخمة في سائر القطار، ويقدم نموذجا للمترددين، ويسرع العملية الثورية. إن شكل تطور المجتمعات المنتصرة سيكون له انعكاسات تثويرية هائلة في المجتمعات التي تبدو اليوم هادئة مستقرة. والموضوع لن ينتهي بفترة زمنية قصيرة.إنها عملية تاريخية وضعت منطلقاتها الأساسية ، ولن يغير القمع إلا حجم العقاب للمتشاطرين الواهمين أن نظامهم أكثر أمانا وقدرة على القمع وتغطيته بالدجل.
ولكن، ولا بد من لكن. يقلقني غياب واضح للفكر الاجتماعي وراء الثورات العربية، ولا بد لشباب الثورة من تدارك هذا الأمر . لا اعني فكرا محددا، لا اعني فكرا ماركسيا أو قوميا عربيا. حيث ثبت بأسلوب التطبيق، عقمهما وقصورهما في مواجهة التحديات.
هناك خطوط عامة أساسية، في رأسها بناء نظام المؤسسات الديمقراطي،على النسق الرأسمالي الغربي. لا اعرف اليوم أفضل من هذا الأسلوب ، إنتاجا وادراة لنظام دولة حديثة. شكل الإنتاج لم يعد هو المقرر ، بل التوزيعة الاجتماعية للإنتاج . ويبدو أن هذه مرحلة هامة لا بد منها في هذه الظروف المربكة التي تمر فيها استحقاقات الثورة في تونس ومصر بعد انجاز الخطوة الحاسمة بإسقاط النظامين.
ما اعنيه أيضا بفكر اجتماعي هي المفاهيم العامة للنظام الأنسب للمجتمعات العربية. وهي لا تختلف عن أي مجتمع إنساني آخر، ومن يدعي ذلك له أهداف غير نظيفة. وكل اجتهاد آخر نحو "فكر تاريخي" أو نظام ثيوقراطي بتسميات مختلفة، سيكون نكسة وعودة عن كل منجزات الثورات العربية التي تتصاعد قطرا قطرا و"زنقة وزنقة"!!
إن نجاح أي ثورة يعتمد على وجود فكر اجتماعي يجب أن يستبدل الفكر الساقط للنظام السابق بأكمله. إن ابقاء بنود في الدستور المصري حول دين الدولة مثلا هي نكسة للثورة ولفكرها الإصلاحي يجب أن يتداركه شباب الثورة قبل أن يصير متأخرا، ويتحول إلى نكسة للمجتمع المصري بكل تركيبته التي شاركت بالثورة، وقد يقود إلى مضاعفات خطرة على المجتمع المصري مستقبلا. في تونس الواقع الدستوري يختلف، بسبب تأثر الدستور أصلا بالدستور الفرنسي وكونه دستورا علمانيا. إنما ما أصر عليه الشعب التونسي ليس تغيير الدستور، بل إسقاط كل شخصيات النظام القديم.. التي أخلت بالدستور وقمعت الشعب.
من هنا رؤيتي غير المطمئنة على مصير الثورات العربية ، ثورات انطلقت من قاعدة القهر، وبغياب أو شبه غياب لأحزاب تطرح رؤية اجتماعية قادرة على تجسيم نفسها في شعارات الثورة.
الفريق المنظم الوحيد كما ذكرت، كان التيار الأصولي، ولكن لم يشارك بفاعلية في الثورة واليوم يتبين أنه تردد في دعمها أو ارتبط بلعبة يخططها النظام الساقط لوأدها، كما تفضح بعض المعلومات غير الكاملة، الواردة من التحقيقات مع شخصيات النظام القديم في مصر، ولم أتفاجأ من ذلك. إن الرؤية العلمانية للشباب أذهلت من ظنوا أنفسهم الورثاء الشرعيين للنظام السابق. قال الثوار عن أنفسهم: "متدينون، ولكننا لا نريد دولة دينية".. والبعض قال بوضوح :"لا نريد إيران جديدة"!!
الآن المهمة، كيف تمنع القوى الثورية، التي أسقطت الأنظمة، سيطرة قوى منظمة، استفادت من الواقع الفاسد السابق، ولكنها لن تختلف عنه إذا وصلت للسلطة ؟
nabiloudeh@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق