إذا كان لابد لي من توصيف للثورة التونسية التي تتقدّم كل يوم فإنني سأصفها بـ :»حديقة بلا سياج«... لا شكّ في أن هذه الثّورة المدنية التي قادها الشّعب كانت غير ذات بعد إيديولوجي ولكنها أنتجت جملها الثورية ما بعديّا وخلّصت الشارع التونسي من التعبيرات الثقافية البالية التي روجت لها وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة. ولننظر في المشهد الإعلامي الثقافي مثالا على تواصل مشبوه مع الماضي الثقافي، ففي المنابر التلفزية دُعي المثقفون للتشفي من الديكتاتور وأنا أنبّه الى أنّهم يتحدثون بكل جوارحهم عن زمن الطغيان والهيمنة والعمالة، يتناقشون على »موائد مستديرة«! مازال هذا المركب النعتي محافظا على بريقه! ما يزال المثقفون يلتقون على »الموائد« بدلاً من الشوارع، مازال المثقفون في المطبخ! أمّا الآن فليس ثمّة الا ثقافة الطبقة وآلام عمّال المناجم واحتضار عاملات المصانع وغربة المعطلين والنوم تحت جدران العمارات...
والقادم أخطر! ليس ثمة الآن من داعٍ للتشفي لأنّه مرفوض من جهة المنطق ومغلوط أليس حريّآ بالمثقفين ابداع ثقافة بديلة وجديدة بدلا من ثقافة اهترأت وحان وقت اتلافها! أليس حريا بهم النزولُ إلى الشوارع ومصبات القمامة فهناك تقطن التفاصيل ويقطن الشعر الأكثر حرارة وصدقا وألصق بالناس من هموم الناس. على المثقفين في هذه اللّحظة التاريخية أن يصوغوا جملة ثقافية جديدة بديلة مغايرة أفصح عنها من قبلُ أستاذنا الطاهر الهمامي ربما لم نقرأ درسه جيّدا، وربما كنّا ننتظر زلزالا ثقافيا جديدا يشطر الخارطة الثقافة التونسية من جديد لعلها تتوضح أكثر. متى سيشارك المثقفون الشعب فرحة النصر على الديكتاتور؟ أم أن للمثقفين فرحتهم الشخصية ونشوتهم المغايرة؟ لقد أصيبوا بالصمت ولم يصدر منهم الا القليل الهزيل، وبدلا من الكتابة تحولوا الى كائنات شفهية تلفزية ربما اختلطت أوراقهم وقد كانوا أمْسِ كُتَّابَ مناشدات ومبرّرين وسفسطائيين وكتبة تقارير (إلا من رحم ربك) وكانوا من قبل مزوّرين وكلاب حراسة ومرتشين (إلاّ من تاب واستقام) كان أغلب الكتاب »عَيَّاشَةً« يجوبون أرياف الوطن سعيًا خلف عائدات الشعر والتحموا بالرّدة والمصفّقين، يعرفون حال الشعر في وذْرف والرديّف ومنزل بوزيّان وسبيبة و»إبط القردة«! لقد كشف كلّ شيء الآن وهام المثقفون في كل واد وتوقف زحف الآداب السلطانية حتى إشعار آخر وفي الطرف المقابل، أنشد الشعب كل ما حفظه من الأناشيد الثورية وأطلق حنجرته وأحبّ البلاد كما لم يحبّ البلاد مثقف ولما صرخ شعبنا مندّدا بعارالعصي والقنابل في ساحة الحكومة، سكت المثقفون حتى في الجرائد وأمام أطباء الاسنان! وأصالة عن نفسي لا أراهن على المثقفين لان المعركة الثقافية قد حسمت دون بقية المعارك السياسية والاجتماعية والإعلامية على أن أغلبهم أصبح على اليسار رغمًا منه أحيانا ودون قناعة وانما تلبية للظروف!
على جدران شارع الحبيب بورقيبة تهاطلت الجمل الثورية والشعارات المناهضة لديكتاتورية النظام القديم، حفرت على الاشجار وكتبت على أطواق الزّنك، مقهى »لونيفار L'univers« مطعون بروّاده القدامى على غير عادته وقع الاقدام على سكة المترو بدلا منْ »سرت والحائط« بواو المعيّة كان المعطوف جدارًا فأصبح شعبًا من المضطهدين. الآن أدركنا أن ذلك الديكتاتور كان ديكتاتورًا من ورق وتأكدّنا ان تلك الدّمى المتحركة من حوله سقطت دميةً دميةً. شعب من الشموع كان يضيء شارع الحرية: لغة جديدة من لغات الترحم على أرواح الشهداء شارع الحبيب بورقيبة يحتفل بسكانه الجدُد: »باعة الكاكي والقطانيا والسجائر المهرّبة والعطور والملابس والملاوي« مازالت بعض قنواتنا الفضائية تتهيب دخول هذا الشارع الثوري الذي حرّر الشعب.
مازالت جرائدنا: الشعب، الطريق الجديد، مواطنون، الموقف ممنوعة ـ ترصُّدًا أو عفوا ـ من الأكشاك وممنوعة في معرض الصحافة في قسم أخبار تلفزتنا الوطنيّة، هذا إن لم تَسْطُ قناة أخرى على عنوان من عناوين جرائد المعارضة لتجعل منه شعارا لخطابها وصوتا للشّعب دون الإشارة الى ذلك. مازال إعلامنا محافظا على الأسماء القديمة والعادات القديمة.
مازال كتابنا الشباب ينتظرون فرصة للإدلاء بأصواتهم والمجاهرة بمواقفهم وابداعاتهم. ننتظر أمامة الزاير وفريدالسعيداني وسامي الذيبي وخالد الهداجي وصابر العبسي وأحمد شاكر بن ضية وغيرهم... إنهم صوت المستقبل وشعراء الزمن الآتي، إنهم حماة الثورة الحقيقيون. وأنا شخصيا لا أنتظر من غيرهم من الجيل القديم شيئا. هذا الجيل القديم يذرف الآن دموع التماسيح فحاذروا أن يذهب بكم مذهبا في الثقة بعيدًا.
revolution2015@hotmail.fr :بريد إلكتروني
0 comments:
إرسال تعليق