الشعب يريد إسقاط النظام في سورية أيضا!/ بروفسور سليمان جبران


قبل بضعة أيّام، رأيت في الفضائية السورية خطابا للرئيس السوري، بشّار الأسد، أمام "مجلس الشعب". لا يمكنني القول إني رأيت الخطاب كلّه فعلا. انشغلت أكثر الوقت بمراقبة حركات الخطيب العصبيّة، وفكاهاته البائخة، وضحكاته البلهاء؛ وبالتصفيق العاصف عند كلّ نقطة وكلّ فاصلة؛ وبالمقاطعات والهتافات النثريّة والزجليّة يلقيها الأعضاء في تمثيلية غوغائية محكمة الإخراج. من بين الهتافات الكثيرة، لفت انتباهي بالذات، ما هتف به أحد الأعضاء من المدّاحين، بملء فيه:
" الوطن العربي قليل عليك، وأنت لازم تقود العالم يا سيادة الرئيس". نعم، هكذا هتف هذا الهمام حرفيا. بعد الخطاب، وقف الرئيس وحده، مثل عريس في يوم زفافه، يتلقّى تهاني الأعضاء واحدا واحدا: هذا يسلّم مبتسما، وذاك يهمس للرئيس بكلمة، وثالث يطيل من عبارات التهنئة إظهارا لمقامه، وهكذا... طال التسليم والكلام والابتسام والهمس، طال جدا، حتّى ضاقت نفسي بهذا المشهد البعثي/العبثي. لم أعد أستطيع مواصلة هذه المهمّة الشاقّة التي أخذت بها نفسي لغير ما ذنب جنتْ. لم أكن في حاجة إلى هذا الخطاب الطويل المضجر، ولكلّ ما فيه من هراء، كما أسلفت. اكتفيت بهوامش التهريج والسحجة والهتافات والبهلوانيّات، دونما غيرها، في هذه المسرحيّة الهابطة، لأقتنع تماما أنّ هذا النظام يجب إسقاطه فعلا، وفي أسرع وقت.
قبل وصول نيران الثورة العربية الشاملة إلى "الشقيقة" سورية، سارع النظام السوري، ومن بعده كثيرون من "المحلّلين" و"المفكّرين" إلى الزعم بأن لسورية وضعا مختلفا. يعني أن الثورة التي أطاحت بزين العابدين وبمبارك لا يمكن أن تطول بشّار الأسد. لكنّا اليوم، وقد هبّت الجماهير السوريّة غاضبة ثائرة، في أكثر من مدينة وقرية، لم نعد نسمع عن هذا "الاختلاف". مع ذلك، دعونا نحاول تبيان الشبه والاختلاف بين سورية وشقيقاتها، مصر مثلا، لنكتشف أن الاختلاف يتمثّل كلّه في أنّ الأوضاع في هذا القطر الوطني الحبيب أسوأ منها في غيره من البلاد العربية كلّها، الملكيّة والجمهوريّة على حدّ سواء.
مصر كانت دائما، بموقعها وأهلها وتاريخها، مركز الثقل في العالم العربي. وسورية كانت، وستظلّ، الجناح الشمالي الذي "يكمّل" مصر في تشكيل "التيّار المركزي" في استراتيجيات الشرق الأوسط وسياساته ومشروعاته. ما تأخذ به مصر وسورية معا هو دائما الخطاب المهيمن على الشرق العربي؛ على الشعوب العربية في أقلّ تقدير. ظروف مصر كما نعلم، وكما ثبت في الواقع، كانت ناضجة لنشوب الثورة الشبابية/ الشعبيّة الرائعة على مبارك ونظام مبارك؛ ما أفضى أخيرا إلى إسقاطه. فبماذا تختلف ظروف سورية، كما أفادونا، فتتخلّف عن الركْب الثوري ؟
في مصر امتدّ نظام مبارك ثلاثين سنة، تحوّل خلالها إلى ملكيّة قمعيّة فاسدة. لكنّ ميدان التحرير فاجأ مبارك وعصابته فأطاح بالنظام، وأجهز على خطّته بتوريث نجله،؛ "الشابّ العصري" جمال. أمّا في سورية فقد حكم حافظ الأسد منذ 1970، "الثورة التصحيحيّة" لمن لا يذكر، وحين انتهى أجل "الرفيق القائد" جاءت العصابة الحاكمة بالشابّ الطويل الخاوي بشّار الأسد من عيادة طبّ الأسنان، ونصّبته حاكما/دمية، لتواصل باسمه حكم البلاد والعباد. هذا "اختلاف" فعلا: ما لم يقدر عليه مبارك وسوزان والحزب الوطني و"رجال الأعمال" من حولهم، أنجزه الرفاق في نظام البعث في سورية بمهنيّة واقتدار!
جدير بالذكر أيضا، في هذه المقارنة، أنّ القوّات المسلّحة في مصر رفضت ضرب الجماهير في ميدان التحرير، واليوم تكشّف أنّ النظام كان أمرها بذلك. بل إنّ الجيش كان درعا حامية للمتظاهرين؛ ما شجّعهم على الارتقاء بشعاراتهم / مطالبهم، والمجاهرة أخيرا بعزمهم على إسقاط النظام، إلى أن أسقطوه فعلا. أمّا في سورية فالجيش "عقائدي"، و"المكتب الثاني" عقائدي، وتقاليده في القتل والتنكيل بالمعارضين عقائدية ومحْكمة أيضا. هؤلاء الزبانية لا يتورّعون عن حصد المتظاهرين بالرصاص، سواء وهم بلباسهم الرسمي، أو متخفّين بالملابس المدنيّة. هذا أيضا "اختلاف" يفسّر تأخّر خروج المتظاهرين في سورية بالآلاف، وتأخّرهم أكثر في رفع مطلب إسقاط النظام.
في مصر، كما في سورية، تردّدت وتتردّد أيضا التهم الكاذبة ذاتها ضدّ الثوّار: الشغب، التخريب، الفوضى، الإرهاب، الفتنة أو الفتنة الطائفيّة، الأيدي الأجنبية، وغيرها كثير. وفي مصر، كما في سورية، لم ولن يلتفت أحد إلى هذه الأسطوانة المشروخة؛ لا المتظاهرون، ولا الأطفال الصغار أيضا.
من هذه الأراجيف، بغية ردع الجماهير عن التظاهر، ما ورد أيضا في الخطاب الخاوي المذكور. فقد أفادنا "الرئيس المفدّى" أنّ إسرائيل وأميركا هما المستفيدتان الوحيدتان من هذه المظاهرات الشعبيّة. صحيح؟ لكنّنا نعرف، ويعرف الشعب السوري أيضا، أنّ أخشى ما تخشاه إسرائيل هو بالذات سقوط النظام في سورية: إسرائيل تحتلّ الجولان منذ 1967، تختال معتزّة بموقعه الإستراتيجي، وتنعم بخيراته من أرض معطاء، وماء، وفاكهة، وثلوج للتزلّج. والنظام "القومي"، طوال هذه المدّة، لا يحرّك حجرا عن حجر على الحدود بينهما. فقط يواصل، دونما ضجر أو يأس، استجداء السلام من إسرائيل التي تصمّ آذانها متجاهلة محتقرة . إسرائيل قانعة مستفيدة من هذا الوضع المثالي، ولن تستفيد من قيام الثورة ضدّ النظام، ما في ذلك شكّ. نجاح الثورة في سورية، بالذات، هو ما تخشاه إسرائيل، فلماذا التهم الباطلة والكذب على عباد الله؟!
في مصر أيضا كانت الأصوات ترتفع، قبل الثورة وخلالها، مندّدة بالنظام، إلى جانب الأصوات المأجورة طبعا. فهل سمع أحد صوتا واحدا من سورية، في الفضائيّات الكثيرة، يقول كلمة واحدة ضدّ النظام السوري القمعي الفاسد؟ لن تسمع من سورية، في وسائل الاتّصال السوريّة والعربيّة والعالميّة، سوى أبواق جاهزة تردّد الأكاذيب المذكورة، فتثير الشفقة والازدراء معا. ما سمعت أحد هؤلاء ""الصحافيين " أو "المحلّلين " إلا تذكّرت الفلسطينيين وغير الفلسطينيين الذين كانت إسرائيل "تأسرهم" في عمليّاتها العسكريّة، ثمّ تأتي بهم ليدلوا بالتصريحات التي لُقّنوها، في الإذاعة أو تحت كاميرات التلفزيون. كان الله في عون هؤلاء وأولئك!
يمكن الاسترسال في هذه المقارنة. لكن لا جدال في أنّ الأوضاع المؤسّسة للثورة في سورية، من تنكيل وفقر وقهر ومصادرة حرّيات، لا تختلف عنها في مصر، وفي العالم العربي كلّه. الاختلاف الوحيد أنّ النظام السوري هو أكثر الأنظمة العربية وحشيّة وبطشا وقمعا وإرهابا. القمع في سورية غدا مع الأيّام "تقاليد" يحفظها الخلف عن السلف، منذ اغتالوا فرج الله الحلو وأذابوه في الحامض حتّى عهد بشّار الميمون. هذا هو الاختلاف ولا اختلاف غيره. وإذا كانت الأوضاع المشابهة في مصر قد أدّ ت إلى تدفّق مظاهرات الشباب في ميدان التحرير وإسقاط النظام، فما زال في سورية أيضا شباب واع شجاع وشعب واع شجاع، رغم تهجير الألوف من أحراره ومثقّفيه. ما زال فيها أيضا مدن كثيرة، وشوارع كثيرة وميادين كثيرة. في سورية أيضا لا بدّ من إسقاط النظام مهما طال النضال، ومهما غلت التضحيات!

CONVERSATION

0 comments: