قنـــا محــافظـــة المنفى/ أنطوني ولسن

جرت العادة بالنسبة للوظائف الحكومية في مصر منذ عهود وعهود قديمة بإرسال أو تعيين المغضوب عليهم والمشاغبين أو من هم أقل في الترتيب الوطني مثل المسيحيين والحمدلله ما فيش يهود في مصر الأن ، وذلك لشدة الحرارة في الصيف ، ولبعدها عن العاصمة " القاهرة " . وكان حظي أن أنقل إلى قنا في منتصف الخمسينات من القرن الماضي لا لسبب سوى أن لساني طويل وأدافع عن زملائي وحرصي على صحتهم .
حدث في بداية العمل بالبطاقة الشخصية عندما كنا قسم البطاقات الشخصية التابع لمصلحة تحقيق الشخصية ، وكانت المكاتب في شقق وطبيعي كنا نضيء الكهرباء أثناء النهار. في أحد الأيام مر رئيس السكرتارية أمام الغرفة التي أتواجد بها مع ما يقرب من 15 موظفا أخرا معي عليهم كتابة البطاقات بالحبر الأسود ولون البطاقة أخضر وكان لابد من إضاءة كهربائية حتى يتمكن الموظفين من القيام بعملهم . أعود إلى رئيس السكرتارية ومروره أمام المكتب وعودته ودخوله الغرفة وإطفاء الضوء دون إستئذان مني كمسئول عن المجموعة والعمل وأنصرف . فما كان مني إلا أن أضاءت الضوء مرة أخري ولا أعرف كيف عاد ليعاود إطفاء الضوء مرة أخرى وأنا مازلت واقفا مكاني قائلا لي :
الثورة تطالب بالأقتصاد ..
فما كان مني إلا أن أعدت إضاءة الضوء مرة ثانية . لكنه أعاد الكرة مرة أخرى وهو يهددني ويخيفني قائلا :
عبد الناصر ينادي بالإقتصاد وربط الأحزمة .
وهنا كان صبري قد نفذ فقلت له في عصبية وأنا أعيد إضاءة الضوء :
وهذا ما أفعله مع زملائي الموظفين بدلا من فقدانهم للنظر مبكرا ، أحافظ لهم على بصرهم .
قال في حدة :
ألا تفهم !!
فرددت عليه بحدة أشد وقلت له :
قل لسيادة المدير العام " لواء شرطة " أن يوقف إرسال سيارات الشرطة بأولاد الضباط إلى المدارس وشراء الخضار لزوجاتهم .
لم يصدق ما سمع مني وخرج .
يومان بعد ذلك الحدث وصدر أمر بنقلي إلى قنا ، ولم أسكت وطالبت لقاء المدير العام . وفي اللقاء سألته عن سبب نقلي إلى قنا وأنا طالب بمدرسة الخدمة الأجتماعية بعد أن تركت كلية الحقوق جامعة القاهرة . أقسم بشرفه أنه سيصدر أمرا بعودتي إلى القاهرة بعد ثلاثة أشهر بعد أن أكون قد أعدت ترتيب المكتب لثقته في .
في قنا وفي أول يوم لي بعد وصولي خرجت من المنزل الذي تم إيجار شقة به من الزملاء ، ووجدت في طريقي إلى المكتب محل خضروات وفاكهة نظيف فقلت لنفسي أشتري " بطاطس وطماطم " من هنا ولما أرجع أحاول أطبخ . رحب بي شاب لا يتعدى الثامنة عشر من عمره ، معمما يسألني عن بغيتي . بعد أن أخبرته نظر إلي وسألني :
حضرتك مش من هنا ..
أجبته بالإيجاب .. فعاد وسألني :
متزوج ..
رددت عليه بالنفي .. سألني مرة أخرى :
تعيش مع أسرتك ..
هززت رأسي وأخبرته أنا بمفردي هنا ، نقلت إلى قنا لأتولى رئاسة مكتب بطاقات مركز قنا .. فوجئت بسؤاله إن كنت أعرف كيف أطهي الطعام .. هززت رأسي مرة أخرى بالنفي . فاجأني بقوله :
عندك مانع زوجتي تطبخ لك ..
كان يبدو صغيرا على الزواج ، وقبلت عرضه .
أول الغيث قطرة كما يقولون .. سرعان ما وجدت نفسي وسط أصدقاء وأحباء وكان عمدة " دندرة " التي صارت مركزا يستقبلني خير إستقبال ، وعمدة قرية بعد " قفط " مع الأسف نسيت إسم القرية والعمدة على الرغم أن علاقتي به وبأسرته كانت قوية وكنت إذا أحسست بضجر أتصل به وأخبره بقدومي فيستقبلني ومن معي من الزملاء إستقبال الأب الحنون في الغربة .
المعروف عن محافظة قنا أنها أكثر محافظات الصعيد المكونة من العرب والهوارة والحميدات وطبيعي من المسيحيين ، ولا ننسى أن مكرم عبيد باشا كان من قنا . في كل عام تحتفل المدينة بكسوة " سيدي عبد الرحيم القناوي " وكان يتقاسم حمل الكسوة الهوارة والحميدات في موكب يبدأ من أمام قسم بوليس بندر قنا يحمل فيه الهوارة الكسوة ويطوفون المدينة ، أو بالحري جزء من المدينة إلى أن يصل الموكب إلى نقطة الإطفاء ليتم تسليم الكسوة إلى الحميدات ليقوموا بالطواف إلى حيث الضريح . وهنا نرى مشهدا غريبا . نرى الحميدي الذي يتسلم الكسوة من الهواري يأخذها بالقوة . وهنا تسمع صوت الزغاريد .. زغاريد الرصاص المنطلق من فوق أسطح المنازل ومن فوق الجمال ويقع ضحية هذا الفعل العشرات من الطرفين .
كان يحدث هذا كل عام إلى أن جاء مأمور للبندرغير وجه الأحتفال الذي كان معمولا به لقرون وليس لسنين .
أعد قوة من خيالة الشرطة وكان يمتطي فرسه أمام القوة ويسير الموكب خلفه ولم يحدث أن أطلق أيا من الطرفين طلقة واحدة .
تمت عودتي بعد ما يقرب من أربع سنوات وكان من الطبيعي قد تم فصلي من المدرسة التي شغفت بموادها ودراساتها . لكن أقول الحقيقة إن كنت قد خسرت شهادة جامعية عوضتها بعد ذلك ، لكني حصلت على أعلى درجات معرفة الحياة وكيفية التعامل مع الناس ولم أكن عندما نقلت إلى قنا أبلغ من العمر العشرين تقريبا .
أحداث قنا حاليا أعاد ت إلي أجمل ذكريات حياتي ليقرأ المشير طنطاوي المسئول الأن عن إدارة شئون البلاد ما كنا عليه وما أصبحنا وأمسينا فيه .....

CONVERSATION

0 comments: