رغم أن الثورات العربية قد نقلت عدواها إلى داخل الكيان الصهيوني، ودفعت بحشودٍ كبيرة من الإسرائيليين للنزول إلى الشوارع والطرق والميادين، ونصبت الخيام، ورفعت الشعارات، وقامت بتهديد الحكومة، والضغط عليها إن لم تستجب لشروطهم، وتحقق مطالبهم، فإن مصيرها ورئيسها التنحي والرحيل، وإلا فإن عليه أن يتحمل تبعات الأزمات الاقتصادية التي تتربص بالبلاد، وتكاد تقضي على كل فرصة للنمو والانتعاش، إلا أن نتنياهو قد جعل أذناً من طين وأخرى من عجين، وأصم أذنيه وأعمى عينيه، فلم يعد يرى غير تطبيق سياسته، والالتزام بأجندته السياسية والأمنية والعسكرية، ولم يعد يصغي إلى الأصوات الشعبية الهادرة، والشعارات التي تكاد تزلزل أركان مكتبه.
لا يمكن إنكار ضغط الاحتجاجات الشعبية على نتنياهو وحكومته، وأن الأزمة الداخلية تتفاقم وتتصاعد، وقد يكون لها نتائج كبيرة على مستقبل الخارطة السياسية الإسرائيلية، أو مصير التشكيلة الحزبية المكونة للائتلاف الحاكم في إسرائيل، إلا أن نتنياهو يدرك أن الظروف التي تمر بها المنطقة تخدم إسرائيل، وتساعدها على تطبيق برامجها، وتنفيذ سياساتها، فالعرب جميعاً مشغولين بثوراتهم واحتجاجاتهم وحراكهم الشعبي، فالشعوب شغلها دمها المنساح، وشبابها المعتقل، ومستقبلها الغامض، واقتصادها المترنح، واستقرارها المفقود، وليلها الذي لا تعرف له آخر، وصبحها الذي لم يَلُحْ فجره بعد، ورغم إيمان الشعوب العربية بالقضية الفلسطينية، وتمسكها بها وحرصها على دعمها، وأنها كانت أحد أسباب حراكها واحتجاجها على أنظمتها وحكامها، إلا أن جرحها النازف شغلها عن جرح الأمة القديم.
أما الحكومات العربية فهي أكثر انشغالاً من شعوبها، فهي خائفة من تمزق حكمها وضياع ملكها، وتخشى مصيراً لا تتمناه، فكان همها الأكبر محاولة استعادة الأمن، والحفاظ على الحكم، واسترجاع الهيبة، وضبط الشارع، وتطمينه بإصلاحاتٍ أو بوعودٍ جادة بإجراء إصلاحاتٍ جذرية وعميقة، هذه الهموم المستعصية والمقتحمة كظلام الليل الزاحف، لم تجعل القضية الفلسطينية كما ينبغي أن تكون في صدارة الاهتمامات، وعلى سلم الأولويات، بل جعلت منها قضية تالية بعد جلاء الأزمات الداخلية، وخلو الشوارع والساحات والميادين العامة من المحتجين والمتظاهرين.
كما أن الفلسطينيين منقسمين على أنفسهم، مختلفين فيما بينهم، بعد أن فرحوا واستبشروا بأن المصالحة قد دخلت بيوتهم، وأن شمل شتاتهم السياسي سيجتمع من جديد، وأن اتفاق القاهرة الأخير سيكون هو بلسم الجراح، ونهاية الأحزان والآلام، وسيتمكنون من استعادة احترام الأمم وتقديرها لهم، ولكن الحقيقة المرة أثبتت غير ذلك، فما زال كل حزبٍ بما لديهم فرحون، فلا ترجمة للاتفاق، ولا حرص على المصالحة، ولا استعداد لتنفيذها، ولا خطوات حقيقة لبناء الثقة، ورأب الصدع واستعادة الوحدة، ولا قدرة لهم على صد اعتداءات الإسرائيليين ووضع حدٍ لاستفزازاتهم.
استغل نتنياهو الانشغالات العربية، الرسمية والشعبية، والاختلافات الفلسطينية الداخلية، ومضى رغم أزمته الداخلية في تنفيذ سياساته العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، بعد أن ضمن عدم قدرة أحد على صده أو منعه، فلا يوجد من يقوى أو يستطيع الوقوف في وجهه، وثنيه عن اعتداءاته وتعدياته، فالجميع مشغولٌ ومهموم، خائفٌ وفزع، مكلومٌ وحزين، فمضى يقتطع المزيد من الأراضي ويصادرها من أصحابها وملاكها، ليبني عليها مستوطناتٍ جديدة، في الوقت الذي يمنع فيها سكان القدس من ترميم بيوتهم، وإعمار مساكنهم، بعد أن أطلق العنان لقطعان المستوطنين لتشلح المقدسيين بيوتهم، وتطردهم من مساكنهم، وتحتلها على مرأى ومسمعٍ من الشرطة وجنود الجيش الإسرائيلي.
ومضى نتنياهو ليسهل للأحزاب الدينية وللمتشددين اليهود، وغلاة المستوطنين، وقادة أحزاب اليمين، دخول المسجد الأقصى، والقيام بجولاتٍ فيه، إحياءاً لمناسباتٍ دينية، أو أداءاً لطقوسٍ يهودية، والسماح للأطفال اليهود بالعبث في باحاته، وإقامة الاحتفالات في ساحاته، في الوقت الذي يمنع فيه الفلسطينيين من الدخول إلى الحرم والصلاة في المسجد الأقصى المبارك، والتضييق على المسلمين خلال شهر رمضان المبارك، ومنعهم من الصلاة والاعتكاف في رحاب المسجد الأقصى المبارك، تيمناً بالأيام المباركة من الشهر الفضيل.
ومضى في قصف قطاع غزة، وترويع سكانه وأهله، وتدمير مساكنهم وتخريب معاملهم، وتهديم شرايين الحياة التي تمدهم بالخبز والطعام والشراب خاصةً في ظل ليالي شهر رمضان المباركة، فلا يكاد يمضي يوم دون أن تقوم طائراته العسكرية باستهداف مناطق مختلفة من قطاع غزة، فتارة يقصف شرق القطاع وفي ذات الليلة تدمر طائراته أنفاقاً في جنوبه، ومرةً يقتل فلسطينيين في شمال غزة ليعود في الليلة نفسها فيقتل آخرين في وسطها، في الوقت الذي يسمح فيه لجنوده باجتياح الحدود، والعبور إلى المناطق السكانية الفلسطينية لترويعهم وقتلهم أحياناً، في الوقت الذي لم يتوقف فيه عن اعتقال مئات الفلسطينيين في الضفة الغربية.
وعلى المستوى الدولي يسعى نتنياهو لتأكيد الحصار على قطاع غزة، وإثبات أن سكانه إرهابيين ومتطرفين، لا يستحقون المساعدة ولا يحق لهم الحياة أو الاستمتاع بالعيش الكريم، فيطالب الحكومات الغربية والولايات المتحدة الأمريكية بالتوقف عن تقديم المساعدات، بل والعمل على التضييق على الحكومة الفلسطينية في غزة، عل المواطنين يثورون عليها، ويهبون لمواجهتها والاحتجاج عليها، في الوقت الذي يطالبون فيه المجتمع الدولي بالضغط على رئيس السلطة الفلسطينية ليتوقف عن التقارب مع حركة حماس، ويمتنع عن تنفيذ الاتفاق معها، إذ أن المصالحة تضر بأمنهم، وتعرض استقرارهم للخطر.
نتنياهو ماضٍ في استغلال الظروف، وانتهاز الأحداث، ليراكم أكبر قدرٍ من الإنجازات العدائية الإسرائيلية، ولينطلق في مفاوضاته القادمة من قاعدة الأمر الواقع، ومن شرعية ما هو قائم، وأن كل شئ سيبقى على ما هو عليه، والتفاوض على ما تبقى، ولكنه يدرك أن هذه الفرصة الذهبية المتاحة له هذه الأيام لن تبقى إلى الأبد، ولن تدوم الظروف العربية على حالها، ويدرك أن الشعوب العربية عندما تستعيد ناصية قرارها، وتنتهي من أولوياتها، فإنها ستكون أقرب إلى الجبهة، وأصدق في المواجهة، وستقف له ولسياسات حكومته بالمرصاد، ولن تسمح له بأن يتفرد بالفلسطينيين، وأن يقضي على أحلامهم وطموحاتهم، وحتى يأتي هذا الوقت، ويتحقق هذا الحلم، فإن على الفلسطينيين أن يتحملوا المسؤولية وحدهم، وأن يقفوا لنتنياهو وحكومته، وأن يتصدوا بقدراتهم وهي كبيرة لسياساته ومؤامراته، فلا نضيع الحقوق في انتظار السند والنصير، وتوقع القادم من الحليف.
moustafa.leddawi@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق