طرابلس في ليلة ذات قدر/ إبراهيم حمامي

في العشر الأواخر من شهر رمضان، وفي ذكرى فتح مكة، وبصيحات التكبير من على مآذن المساجد، انتفضت طرابلس عروس البحر في وجه طاغية آخر، استبد وحكم بأمره لأكثر من أربعة عقود من الزمن، حوّل فيها البلاد والعباد لملكية خاصة لنزواته وشطحاته، حتى دقت وأزفت ساعة التحرير والانعتاق في تلك الليلة الرمضانية المباركة، بأيدٍ متوضئة، وبدماء وتضحيات من أبناء الشعب الليبي قل مثيلها في هذا الزمان.

يوم سقط طاغية تونس وفرعون مصر، لم يتصور أحد خاصة من عرف وعاش مع الشعب الليبي، أن يثور هذا الشعب هذه الثورة الرائعة التي أطاحت بأكثر الأنظمة الشمولية في المنطقة، شعب صغير العدد في مساحة جغرافية شاسعة، بلا سابق تجربة سياسية، وتحت قمع متواصل يمنع النجومية حتى في مجالات الفن والرياضة، وإعلام يسبح بحمد الشخص الواحد الأوحد، ومليشيات من حثالات المجتمع أُعطيت السلطة والنفوذ لتعمل كآلة للقتل والتدمير بين أبناء الشعب الليبي، عوامل كانت تشير إلى استحالة النهوض والثورة في وجه النظام، لكن الشعب الليبي فعل المستحيل، وقهره أيضاً.

الحاكم بأمره
كان طاغية ليبيا ليس ككل الطغاة، كان حاكماً بأمره بكل ما تحمل الكلمة من معان، يرى في نفسه كل صفات العظمة، ويضع نفسه فوق مصاف البشر، فهو رسول الصحراء، ومنقذ البشرية عبر نظريته العالمية الثالثة كما أسماها، وتحول من رافض للألقاب والمناصب إلى ملك ملوك أفريقيا، وأسبغ على نفسه لقب عميد القادة العرب، وشبه نفسه بملكة بريطانيا، ولم يجد غضاضة بأن يتسمى بإمام المسلمين، ناهيك عن باقي الألقاب العابرة من ثائر ومناضل ومجاهد ومكافح ومقاوم، مروراً بهازم أعتى قوة والمنتصر دائماً.

ولأنه مهووس ومفتون بجنون العظمة، أصبح كل ما لديه عظيم: ثورة الفاتح العظيم، النهر الصناعي العظيم، الشعب العظيم، الجماهيرية العظمى، وغيرها من الأسماء رغم أنه لم ينتصر يوماً في مواجهة إلا على شعبه.

تدخل في الشأن الأفريقي فخرج يجر أذيال الخيبة والهزيمة في أوغندا وتشاد، واجه العالم بظاهرته الصوتية ليستسلم تماماً دافعاً تعويضات عما اقترفه من جرائم -لوكربي وملهى برلين وغيرها– مسلماً بالعشرة للغرب ليقبل به مقابل بيع من كان يدعمهم –الجيش الجمهوري الإيرلندي على سبيل المثال– وكذلك برنامجه المزعوم لأسلحة الدمار الشامل، لم يجد يوماً حرجاً بأن ينقلب على مبادئه ليبقى هو الواحد الأوحد، وكل ذلك من دماء وقوت الشعب الليبي.

لا نجد في سيرته شيئا من العظمة مهما حاولنا أن نبحث وننظر، بل سيل من الشطحات والجنون المقنن، كمن يحلم ليلاً لينفذ نهاراً.

العظيم الوحيد اليوم هو هذا الشعب الليبي الأبي الذي أطاح به وبعائلته وعصابته في ثورة تابعها القاصي والداني.

ثوار الناتو
لم يعجب البعض خاصة من أتباع اليسار العربي، وأكثر خصوصيةً يوم ثار الشعب السوري البطل على طاغية آخر، فبدؤوا بابتداع الأسماء وتداعوا لتشويه ثورة الشعب الليبي بكل قوتهم دفاعاً عن معاقلهم الأخيرة في طرابلس ودمشق، رغم دعمهم المطلق لثورات مصر وتونس، وتلقف ذلك بعض "المثقفين" ليطلقوا لأنفسهم العنان في حملة التشويه تلك وليعتمدوا اسم ثوار الناتو، وليطعنوا بثورة الشعب الليبي، وكان منهم رؤساء تحرير وكتاب وإعلاميون، يضخمون الإشاعة ويتغاضون عن المعلومة الموثقة.

بل وصل بهم الإسفاف حد اعتبار برنار هينري ليفي محرك الثورات العربية جميعها، معتبرين كلامه منزلاً غير قابل للشك والطعن خاصة حول رسالته المزعومة لنتنياهو، رغم النفي القاطع والواضح من كل القيادة الليبية الجديدة، ليكرروه في كل لقاء ومقال، بل وصل الأمر ببعضهم وفي بدايات الثورة الليبية للتأكيد وعلى المسؤولية الشخصية أن القاعدة ترتع في شرق ليبيا.

حملة مغرضة أقل ما يقال فيها إنها تختزل ثورة شعب قدم الآلاف من الشهداء والجرحى ومن قلب معاناة استمرت 42 عاماً ، لم نسمع فيها أصواتهم يوم علّق الليبيون على المشانق، وسحلوا في الشوارع، وألقيت فيها جثامينهم في البحر، وهدمت الجرافات بيوت أهاليهم، وزج بأقاربهم في السجن.

لم يعترضوا يوماً على قصف المدن الليبية بالطائرات في تسعينيات القرن الماضي، ولا حصار المدن ومعاقبتها جماعياً، ولا حين ارتكبت المجازر في سجن بو سليم وفي بنغازي أمام القنصلية الإيطالية، ولم يتباكوا على مئات الأطفال الذين حقنوا عمداً بفيروس الإيدز لتلصق وتلفق التهمة لآخرين كما اعترف سيف الإسلام بلسانه لاحقاً.

هذا في ماضي الأيام، وربما يتحججون بأنهم لم يعرفوا ولم يسمعوا، لكن ماذا عن أيامنا هذه، وبعد ثورة الشعب الليبي البطل في شهر فبراير/شباط الماضي؟ أين كانوا وماذا قدموا عندما سقط المئات برصاص مضادات الطائرات في شرق ليبيا؟ أين أنتم –على طريقة من تدافعون عنه- عندما كانت مصراتة والزاوية والزنتان تذبح وما من سائل؟ لِمَ لم نسمع صوتكم ووفود القذافي تطير إلى تل أبيب تستنجد بنتياهو وليبرمان، وشحنات الأسلحة تأتيه من هناك؟ هل أعجبكم مثلاً تحذيره بأن سقوطه سيضر بأمن "إسرائيل"؟

أكثر من شهر والشعب الليبي يصرخ ويستنجد بالعرب والمسلمين، وما من سائل، أكثر من شهر والشعب الليبي يستفرد به من قبل جزار مجنون لا يراعي فيهم ضميرا أو ذمة، ثم تريدون منهم ألا يقبلوا مساعدة العالم للدفاع عنهم؟

وللتذكير فإن يوم 15 فبراير/شباط شهد سقوط أول شهيد في ثورة الشعب الليبي أمام مبنى المحكمة في بنغازي، والقصف الأول لقوة الحماية الدولية كان يوم 19 مارس/آذار. قرابة الخمسة أسابيع والليبيون وحدهم يحصون قتلاهم وجرحاهم، تدك المباني على رؤوسهم، لم يجدوا قوات عربية أو إسلامية تدافع عنهم ليقولوا لا لقوة الحماية الدولية، ليخرج بعد ذلك من يزايد عليهم.

ما هو بديلكم وأنتم ترددون لو بقيت سلمية كان أفضل لهم. سلمية في وجه الصواريخ والدبابات والطائرات؟ أي منطق هذا وأي عقل؟ من سقط في الأيام الثلاثة الأولى من ثورة الشعب الليبي فاق من سقطوا في تونس ومصر مجتمعين، فاقهم عدداً ونسبة.

ليسوا ثواراً لأحد إلا لأنفسهم، انطلقوا بإيمان وثقة وثبات وعزيمة، قبلوا دعم الغريب بعد أن تخلى عنهم القريب، الذي لم يتخل وصمت بل زايد عليهم، وكأن لسان حالهم يقول، إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا فما حيلة المضطر إلا ركوبها.

مصالح الغرب
وأهم من يظن أن الغرب تدخل من أجل سواد عيون الشعب الليبي، أو حفاظاً عليه، ما حرك الغرب هو مصالحه أولاً وأخيراً، هذا لا يختلف عليه أحد، بل ربما أراد الغرب تقسيم ليبيا، ولذلك وجدناه يماطل ويتثاقل، والمتابع لأداء قوة الحماية الدولية لا بد وأن يتساءل، لماذا بقيت تلك القوة تتفرج على مصراتة وقبلت أن يستعيد القذافي الزاوية؟ ما هي الحكمة في إبقاء ثوار الشرق على أعتاب البريقة ومنعهم من التقدم؟ هل يحتاج باب العزيزية لخمسة أشهر من القصف لتدميره؟

تساؤلات كثيرة ومواقف أسقطها فقط إصرار الشعب الليبي على نيل حريته، وهبته في كل مكان، ولا نبالغ إن قلنا إن صمود مصراتة والزنتان تحديداً أفشل مخططات من كان يسعى للتقسيم وقلب الطاولة عليهم.

نعم هي المصالح، لكن ما يضير الشعب الليبي في ذلك إن التقت المصالح، النفط الذي حرموا من إيراداته لعقود من الزمن عليهم أن يبيعوه لمشترٍ، ما المشكلة أن تكون الأولوية لمن ساعد الليبيين للتخلص من الطاغية؟ لا يمكن أن ينظر الليبيون لموقف الدول التي ساندته ويساويه بالموقف الروسي مثلاً، الذي ما زال يصر أن للقذافي دورا حتى بعد سقوط حصنه.

ما يطمئن أن الشعب الليبي شعب مؤمن محافظ، شعب يفاخر بأن خمس سكانه من حفظة القرآن الكريم، وما سمعناه وشاهدناه حتى اليوم يبشر بالخير الكثير، وبوعي سيسقط كل مؤامرة تحاك في الخفاء لسرقة دماء شهدائه.

ما بعد القذافي
لم يترك القذافي مؤسسات أو بنى تحتية يمكن أن يبدأ منها الليبيون، كان في مهمة لتدمير مقدرات البلاد وبشكل منهجي ومنظم لا يتسع المجال لتفصيله، وإن كانت تلك مأساة إلا أنه يمكن تحويلها لايجابيات كثيرة، منها أن الشعب الليبي يبدأ من صفحة بيضاء لا يوجد فيها بقايا نظام كما هو الحال في تونس ومصر، ومنها أن إعادة الإعمار والبناء يعني فرص عمل واستثمارات ونهضة تنموية، ويعني طلاقا بائنا مع تلك الحقبة السوداء في تاريخه، فرصة تاريخية للنهوض بالبلد لتنعكس ثروة ورخاء وحضارة يستحقها الشعب الليبي بجدارة.

لكن لكي يستقيم الأمر ويتم النصر، على الشعب الليبي بكل فئاته ومكوناته أن يتوحد وينصهر تماماً، ويكون ليبياً وليبياً فقط، بعيداً عن القبلية والمناطقية والانتماءات والمعتقدات، وكذلك تجميع السلاح وسحبه، وإعادة تأهيل الأفراد والمؤسسات، والاستعانة بكل الطاقات والخبرات.

ليس الأمر بالهين بعد كل ذلك الكبت، لكنه ممكن وسهل إن وجدت الإرادة والعزيمة، وقدم الجميع مصلحة الوطن على مصلحة الفرد.

ما بعد القذافي مرحلة جديدة يمتد أثرها لما هو أبعد من حدود ليبيا الجغرافية، وانعكاساتها سمعت ومنذ اللحظة الأولى في سوريا واليمن، يوم خرج المتظاهرون يهتفون تحية للشعب الليبي، مستبشرين باللحاق بركبهم في قطار الحرية والانعتاق.

ثورات ثلاث حتى اليوم أسقطت طغاة ثلاثة، كل بأسلوب ونهاية مختلفة، في تونس حرك البوعزيزي الناس وتظاهروا حتى هرب بن علي وبقي لهم العبور بثورتهم نحو بر الأمان، وفي مصر اعتصموا في ميدان التحرير وحركوا كتلهم البشرية حتى تنحى مبارك ليظهر في قفص الاتهام رغم كل محاولات المجلس العسكري هناك، وفي ليبيا بدؤوا بصدور عارية حتى اضطروا لمواجهة وثورة مسلحة أسقطت القذافي ليصبح اليوم طريداً، والبقية تنتظر.

مبروك لليبيا التي ولدت وعشت وترعرت وتخرجت وعملت وتزوجت وأنجبت فيها، مبروك لنا جميعاً، وهنيئاً للثوار بثورتهم المباركة. لقد كانت ليلة شهدنا فيها التاريخ ولم نقرأه، طرابلس كانت على موعد وليلة هي دون شك ليلة ذات قدر.

CONVERSATION

0 comments: