لا يوجد أصعب على النفس من تناول الإنسان شيئان في محاولة البحث والكتابة عنهما، وهما: الإنسان والمكان، لما يمتزج فيهما من أثر يترك بصماته على النفس البشَّرية، حيث تجدَّ الذات تفوض في مجد وانجاز تارة، وانحسار وتراجع تارة أخرى...
ومنبع الصعوبة ليس منتج ذاتي يعرقل استشعارك نحو الهدف، بل هو من نابع أن الإنسان المتمتع بكاريزمة قيادية أو أدبية لها في التاريخ إطلالة ومسيرة أمام مرأى الجميع، ولها من الضوء ما يضفي عليها جانب العمومية وليس الحصر، وهو ما يربِّك أي محاولات للتفويض في سبر هذه الشخصية وتناولها بشيء من العمق، فالتاريخ لا يسير بخط مستقيم، وأحداثه لا تُعيد تكرار نفسها، والشخصيةُ جزءُ منفصل عن العام، لها من الصفات والسمات ما يمَّايزها عن الآخر، ولكل سماته التي لا تنطبق كربونياً أو جزئياً بشراكة مع شخصيات أخرى، وهي ما مثلت دافعاً لتشكيل صفحة من التاريخ يتداولها جيلاً تلو جيل، وإعادة إنتاج هذه الشخصية وتفصيلها وتتبع منحنياتها التي شكلت بصمات لا تتطابق، وخاصة في الحالة التي أتناولها في هذه الورقة الخاصة، والممثلة بشخصية تمتعت بكاريزمة متشبعة الجذور والأفرُع، من حيث القيادة، والأثر الكفاحي النضالي، والعمق الفكري الأيديولوجي، مما خلق امتزاجاً نادراً يتوحد في أثره على المكان والزمان من جهة، وعلى منحنيات نضالية فكرية، أقرب منها إلى المدرسة التربَّوية التعليمية التي تتواصل في عملية إرشاد بنيوي تربوي للأجيال السابقة والقادمة معاً.
فهذه الشخصية التي شكلت عبِّر التاريخ الفلسطيني مدخلاً لتجاذبات بحثية في إحداث حالة من فض الإشتباك البحثي حولها، لم تنته بمجرد إصابتها مباشرة بصاروخ أطلقته طائرة غائرة تحمل أهداف أبَّعد من فناء الجسد، بل ولدّت من جديد لتطلق العنان للأقلام والأفكار في البحث عن خفايا وعمق الأثر التاريخي للشخصية على المكان والزمان، ومسيرة عقود بدأت تتشكل بها شخصية تم صقلها في تضاريس متقلبة، وهزات متواصلة أسقطت العشرات في هوجاء سعارها، وقليل مما تثبَّت أمام فوهة البركان ليُسجل مشاهد تاريخية لا يمكن العبور عنها، أو تناولها بهامشية.
من هنا تأتي صعوبة تناول هذه الحالة النضالية الفكرية التي بصددها والممثلة بشخصية قيادية أممية امتد تأثيرها خارج المحيط الفلسطيني والعربي، ليضرب بجذوره المحيط الأممي الثوري، عبر قسوة في التصنيف تضفى للتاريخ بعداً بشقيه سالفا الذكر "النضالي والفكري"، وهى المسؤولية التي أخذتُ على عاتقي البحث في إشراقها الذي احدث مرشداً للعشرات من أرادوا اكتشاف أو إنتاج مادة هامة، ومجالاً فسيحاً لمزيد من التنقيب في منجم الشهيد الأُممي(أبو علي مصطفى) أحد محاور التاريخ الذي لا يمكن وصفه بالمحلي أو القومي أو الأُممي، لصفة العموم التي اكتسبها. ودراسة هذه الشخصية لا تعني معرفة تفاصيلها، أو القدرة في استشراف مفاصلها بشكل إجمالي ومعمق، وإنما اجتهاد أو محاولة استدراك لجزء من تاريخنا الذي يعاني من تخمة في صفحاته التي دونت أحداثها ثورة وطنية امتزج بها الأدب المسلح مع الأدب الفكري والثقافي، عَمدت التاريخ الحديث بنموذج استحداثي أصبح وجهةً لكل ثوريين العلم في حقبة ما بعد الإقطاع العالمي.
هذه الثورة ببعديها الكلي والجزئي لم تستبق الثورة النهضوية العالمية بالزمن، ولكنها أحدثت استباقه في القدرة على المجابهة، وعنفوان التحدي لمحاولات إعادة إنتاج التاريخ الذي تبنته الحركة الصهيونية الأدبية مع نهايات القرن التاسع عشر، والتي استبقت الصهيونية السياسية والصهيونية العسكرية، مستعينة بالعشرات إن لم يكن المئات من خارج إطار اليهودية التي شكلت مساحة استقطابية مدعمة بكل وسائل وأدوات النجاح، والدعم العالمي من القوى الكبرى، لكي تشكل هجمة فكرية تتمحور برسم ملامح قومية يهودية رغم عدم اكتمال أسس ومرتكزات هذه القومية فاقدة أهم ملامحها إلاّ وهي اللغة، في إعادة لتزييف التاريخ وإنتاجه بخداع بصري عقلي، يستطيع احتواء في باطنه الشكل المظهري للهدف الأعم الذي عبر عنه مؤتمر بازل 1897م في إطلاق الصهيونية السياسية والعسكرية.
هذه الإحداثيات هي التي تضعنا في صعوبة قاسية، وتحدي شرس عند تناول شخصية جابهت هذا المخطط الممنهج بقدرات ذاتية، وإمكانيات عدمية، أوجدت هامش في بناء معبد مقدس في مواجهة قساوسة الفكر العالمي، ومزيفي التاريخ.
إن هذه الورقة أو الرؤية تأتي تأسيسًا على قاعدة المجابهة الذاتية النضالية والفكرية للشهيد (أبو علي مصطفى) مع مجموعة من جيل النكبة الذين واجهوا الحركة الأدبية، والسياسية، والعسكرية الصهيونية، مجابهة بمقاييس المقارنة لم تحتكم لأي قوانين عدالة، في جوهر المواجهة بين مؤسسة منظمة متكاملة، ومدعومة من منظمات ومؤسسات وقوى كبرى، أمام أفراد وأشخاص لم تتوافر لديهم أي مصادر دعم وتحفيز، وإنما صقلت من التحدي فن إبداعي للوصول إلى الأهداف، وتحقيق عملية توازن في المواجهة.
تبدو الكتابة بشكلها المبسط يسيرة في متناول اليد للقارئ الطبيعي، أو للباحث عن معلومة في عمق هذه الشخصية، ولكنها قاسية ومضجرة ومقلقة للكاتب عن هذه الملامح، والمتعمق في الاستغراق التحليلي لبعده الفكري في شخصية تضاهي شخص القائد المفكر الأممي(أبو علي مصطفى) ما يضفي لمسة تأنيب للضمير إن لم تخرج هذه الرؤية في صورة تُعبر عن بُعد من أبعاد الشخصية ومكوناتها، وهو ما أخشاه كلما اقتربت من نقاط التماس الفعلي مع روحانية التاريخ النضالي للقائد الأُممي (أبو علي مصطفى).
أولاً: نهاية لا بد منها:
ليست مفاجئة النهاية التي آلت بمصير القائد (أبو علي مصطفى)، بما إنها نهاية لقائد بحجم وتاريخ أبو علي مصطفى، للمدرك والقارئ لطبيعة الصراع مع الحركة الصهيونية، وأساليبها في مواجهة المد الثوري الفكري الفلسطيني الذي تبلور مع بداية الستينات من القرن الماضي، ونجاح هذا المد في تسجيل انتصارات حاسمة وصادمة ضد الحركة الصهيونية الأدبية والسياسية التي صُدمت بقدرة الحركة الوطنية الثورية والأدبية الفلسطينية على تسجيل انتصارات صادمة، وساحقة ضدها على المستوى المادي والمعنوي، أي على مستوى إعادة الوهج للتاريخ، ومجابهة الزيف الصهيوني من جهة، ومقاومتها على مستوى الرأي العالمي الذي كان يمثل ميداناً فسيحاً لها ترتع به وبأدواتها كيفما تشاء، وحسبما تشاء دون حسيب أو رقيب، وحسم الساحة الأدبية والثقافية العالمية لميدانها، ولصالحها، وهو ما شكل استنفاراً للحركة الصهيونية بأعلى مستوياتها وخططها، ودفعها لإعادة صياغة ملامح المواجهة وانتقالها من حالة هجوم دائمة إلى حالة دفاع اتسم بالوجود أو اللاوجود، من جيل فلسطيني صقل الكفاح بالثقافة، والنضال بالأدب في تجربة فلسطينية استرشد بها كل من تبنى الحرية فكراً ومنهجاً للتخلص من الاستعمار والاستبداد السياسي والثقافي.
إن لحظة النهاية قد تأخرت كثيراً، والمصير الذي واجهه أبو علي تأخر عن زمانه سنوات إن لم يكن عقود، ليس تخاذلاً من الحركة الصهيونية، بل بحنكه ويقظة القائد وقدرته على مجابهة أجهزة الأمن الصهيونية، ومواجهتها بأساليب لا يتقنها إلاّ ثوري ومفكر بقدرات وإمكانيات، وكاريزما أبو على مصطفى، الذي سقط في المكان المناسب (أرض فلسطين) الحلم الذي رآه يقظاً منذ نعومة أظافره، وعشق ترجمته لواقع معاش بالجسد والروح.
إن كان المكان هو المناسب بالنسبة لأبو علي مصطفى، فإن الزمان لم يكن المناسب للحركة الوطنية والفكرية الفلسطينية، التي فقدت شخصية بهذا القدر من الدهاء والفكر والكفاح قلما ينتج مثلها في مختبرات الوعي البشري والإنساني، أو مفاصل التاريخ المعنونة بهذه الكفاحية النضالية المميزة بشقيها الثوري والكفاحي الصلب القادر على ابتكار واختلاق أساليب المواجهة بما يتلاءم وطبيعة ساحة المعركة وأسلحتها، دون الإلتصاق بالتقليدية وملحقاتها، والتمترس خلف سدود الأزمان والمراحل المتعاقبة بإحداثيات لا يقوى على التمحور والتأقلم معها إلاّ القلة النادرة من وهبوا واكتسبوا عمق قراءة الأحداث والمتغيرات وإحداثيات المعادلة المتطورة بمركباتها الرياضية مع تطور أدوات الصراع ومفاهيمه وملامحه. أن الزمن شكل حالة صادمة، وشعور لم يخفِ الخشية من السقوط من أعلى درجات الثورية الوطنية الفلسطينية عامة، والحزبية خاصة، ولنا كمراقبين عن بُعد، والانحراف عن الدرب النضالي الموسوم بصلابة فدائي يقود جوهر قضية متأرجحة بفعل الزوابع السياسية العاصفة بقضيتنا الوطنية، وواقعيتنا السياسية، بغياب قائد تمتع بملامح الصرامة والثبّات والضعف أمام فلسطين، وثوابِتها. وهذه الخشية الصادمة أثبّتت صحتها فيما بعد الغياب الطارئ للإنسان الذي حفلت حياته بسلسلة من المعارك الشاقة على طريق المواجهة من أجل مبادئ لا تُقهر بِفعل المتغيرات الدولية والإقليمية، والمحلية، بل تزداد تمترساً نحو تحرير فلسطين، ووحدتْ قواها الوطنية وحركتها الثورية، والعدالة المجتمعية، وإعادة بناء الحزب الطليعي الثوري القائد للجموع المضطهدة، وصيانة وترميم القضية الوطنية مما علق بها من تسويف ومساومة.
هذه الإسقاطات الثابتة كان لها بحياة أبو علي مصطفى ما لم يكن لحياته الشخصية ورغدها، والبحث عن الذات العائلية والأسرية.
لا شك أن قراءة المكان والزمان للنهاية، حالتان متناقضتان في تناولهما وفقاً لوجهة النظر الشخصية للباحث في شخصية القائد أبو علي مصطفى، ويشكلان جدلاً واسعاً لم يحسمه إلاّ رغبة الشهيد الشخصية في الإختيار الطوعي للعودة إلى الوطن، وإن كانت عودة لم تضاهي الحلم والطموح والرغبة، إلاّ إنها عودة جزئية لبضع من الحلم الشمولي بفلسطين الكل، ما يدفعنا لإستدراك خفي من خفايا أبو علي مصطفى، اختيار العلاقة الحاسمة بين المكان والزمان، لنموذج أحدث توأمة فكرية وجدانية لقائد استدل واسترشد بنمذجة مثالية لجيل قادم يحسم من خلاله الصراع بين النظرية والتطبيق لحلم العودة ولو بشكله المنقوص، والمبتور.
أما في مقاييسنا نحن من منطلق الربح والخسارة، فإن حالة التناقض محسومة بعيداً عن الإستنبّاطات العاطفية التي إرتأها أبو علي مصطفى عند اتخاذ قرار العودة، أي اختيار مكان النهاية، وهو الوضع الذي لا يمكن بهذه الحالة إخضاعه للنقد سواء موضوعياً أو منطقياً، بما أنها تحاكي العقلانية المتزنة، والجمود في الإستشعار بالشعور الإنساني الممثل لشخصية أبوية وطنية مرهفة مثلت حُب للآخرين، وحُب للغير، وحُب للوطن، تحول إلى تفان في الإنصهار بالتضحية، والكد دون حساب للنهاية، وإنما عطاء مستمر، وإيثار صقلته اللوحة النموذجية في ذهن قائد معتقداته الأهم إنكار كلي للخاص والشخصي.
لن استرسل في تناول صراع الوجدان الذي مثل لحظة الحسم لدى القائد أبو على مصطفى بنقاء وإصرار في اختيار المكان، الذي جاء بصفاء يتوافق مع معتقدات ومبّادئ العمل الذي رسمها أبو علي مصطفى لمسيرته مع فلسطين، ورفاق لم يتصرفوا إلاّ بضمير، وقلب، ووجدان لا يَسمح لهما إلاّ الإيثار لأجل وطن يعيش بهم، ويعيشون بحلم العودة له.
لست جازم بأنني سأنصف الإنسان أبو علي مصطفى بقدر إنصاف المقاتل والمفكر، ورغم ذلك اجتهد في المحاولة، وربما استطيع إشباع الذات في استكشاف ملامح هذا الإنسان.
ثانياً: أبو علي مصطفى الإنسان:
هل يبكي العظماء؟ وهل ولدوا أطفال طبيعيون؟! وهل حَملتْ طفولتهم أحلامُ الصغار؟!
مندهشاً، وأنا أصيغ أسئلتي الثلاثة سالفة الذكر، وأنا أُهم بتناول جزء من طفولة أبو علي مصطفى، ولكنها جزء من الخروج عن التقليدية ورتابتها في تناول سيرة أحد العظماء، والبِدء من بواطن رهبتي التي اعترف بها، من تناول هذا الجانب الغامض من جوانب طفلُ لم يعلم أن حياته حُددت مساراتها، ورُسمت ملامح شقائها، وعليها حِمل ما لم تقو على حَملة جبال، وأنها أحد المؤثرات في التاريخ، وضلع صلب من أضلاع الهيكل العام لقضية توازي قضية فلسطين. هذه الخشية تتسلل لأعماقي ربما لأنني أحد المؤمنون بالفكرة التي حملها أبو علي مصطفى، والمبادئ التي اعتنقها كمعتقدات، وحلماً راودني يوماً أن تعانق كف يدي اليمنى كف يده اليمنى، وحلم مَثل حقيقة لشاب صغير استنهض قناعاته من فولذة القادة الكبار.
تلك الأحلام والقناعات لا تمنع بأي حال الوقوف أمامها، والتمترس خلفها، والاستسلام لرهبتها، بل هي الدافع للكتابة والتعمق في مفاصل الحياة الشخصية للطفل الوادع الذي صرخ صرخته الأولى استهجاناً على ضياع فلسطين، واستزداد بفيتامينات النمو من ملحمة ترسمها أنامله الصغيرة، بحمل بندقية وقلم، وتطريز لوحة الوطن المستباح من عصابات لا حق لها بالوجود على هذه الأرض، وبصفحات التاريخ.
هل يبكي العظماء؟!
لن أجزم بأي حال أن أبو علي مصطفى لم يذرف الدموع، ويستصرخ الآهات المنبعثة والمبعثرة من أعماق الإنسان الذي شكل لديه الحب حالة من الإيثار، ونكران الذات، وانبتت حب الآخرين تحمل من البراءة والنقاء والطهارة دافعاً للبكاء أمام المشهد الفلسطيني في عالم الذات والوجدان، بكاء دموع هي أحد أهم المشكلات لشخصية فريدة أقرب للظاهرة زاملت وصاحبت ورافقت جورج حبش الإنسان الذي أبكته كل المراحل المستوحاة من عظمة الإصرار على البقاء بنقاء وصفاء.
فالحديث عن البكاء بلحظة العاطفة هي أقرب من لحظة وصف ملامح عظمة أولئك الذين شكلوا قلاع صلبة أمام مناجيق الصهيونية، فإمتزج الوجدان الإنساني بعشق الوطن، ليضيء درب في مجابهة رواية اغتصبت الأرض والإنسان.
براءة صانت الفكر، وبلورت صلابة الملامح التي امتاز بها أبو علي مصطفى أمام كل من يساوم على فلسطين، صانها التحدي في رسم التوازن بين قائد بعنفوان النضال، ومفكر إنسان يحمل رصاصة بزند مقاتل، وقلم بيراع مفكر.
ليس محظور تناول الدموع، وليس من الخطورة أن سقطت شذرات العشق على الخدود، بل المحظورات إنكار إنسانية الفلسطيني الذي كتم الحب في أعماقه، وإستحال أمام المصغرات في مواجهة قوانينها بإصرار وتحدي وعنفوان. هي كالحديث الواف والمفصل عن فتوة قائد مزج الحب بالنضال في رحاب الأسرة، وأثناء الدراسة، ومسيرة النضال، ولحظة الإستشهاد.
إنها فاصل مهم يبحث عنه القارئ في ثنايا الإستزادة عن أبو علي مصطفى، من زاوية عكسية لا تخفي المَولد والمنشأ والمسيرة، بل تستلهم من الزوج، والأب، والعاشق دروس وعبر لا يمنحها الباحثين أهمية، في ضوء الإنكار لأهمية الشق الإنساني في حياة القادة العظام. الإستفاضة في الإنشاء الوجداني لا مفر منها أمام حالتنا تلك الممثلة بشخص أبو علي مصطفى بما إنها تأتي في سياق الإطلاع على جزء خفي من خفايا قدوة يحتذي بها، وهي دافع لنا للإستغراق نوعاً ما في جوانب، ربما يرتأيها البعض ضرباً من الإستغراق الفضفاض، ولكنها بمثابة حيز أهميته من أهمية الجوانب الأمامية لشخص أبو علي مصطفى الذي مثل نموذجاً عائلياً وأسرياً حانياً، وشعلة من العطف والحنان الأبوي، والأخوي، والعائلي، كأحد أهم السمات التي صَقلت الإستعداد للتضحية المتواصلة، والبكاء أمام عذابات طفل يُعذب، وإمرأة مضرجة بالعذابات، وشيخ يبحث عن مفتاح دار هجرها، وشاب يقبض على زند بندقيته في ساحات الإعتراك، والمواجهة، وحبراً في قلم كل من كتب عن الوطن بيرقاً من الأدب، ومصالحة مع الذات بلا شكوى أو تذمر، بلا أنين، أو عتاب أو نفاذ صبر.
حياة أبو علي مصطفى حكم مؤبد مع الأعمال الشاقة قاعدتها الثبات والإصرار، وأفرعها وجدانية الإنسان، في مقاربة وانصهار بين الخاص(الشخصي) والعام(الوطني)، نزف بها القلب حباً للأرض، والأبناء، وشوقاً للزوجة، والأحباب، وإصرارًا للبقاء على نفس المسار في حالة ذوبان عامة، تعيد للنفس اتزانها المتواصل في رسم مستقبل الأجيال.
إنها اللاطبيعة في الإنكار الجزئي للذات، وليست الطبيعة في الإستنكاف في معبد الرهبان بيد صولجان، وبالأخرى كتاب مقدس، ترتل آياته كلما حجبت بكائيات السماء عن الأرض، تستعطف هطول البركان، بل هي اللاطبيعية في الإيثار بالنفس، والشقاء في محافل التاريخ، لإعادة صياغة دموع العظماء في نهر العطاء، هي دموع العظماء التي انسكبت بخشوع الليل، وضجيج النهار، لتصنع درب من النضال في دُجى التشرد، وتصبح للوطن عنوان.
هل ولد طفل طبيعي؟!
للوهلة الأولى يستوقف هذا السؤال القارئ، مخاطباً بإستغراب واستهجان، متسائلاً عن قصد الكاتب من الميلاد الطبيعي، وجوهرية أو فلسفة هذا السؤال. هي حالة طبيعية في سياق التقليدية التي اعتدنا عليها في الجوانب البحثية السردية التي نتبعها في تناولنا للبحث في الشخوص أو الظواهر، أو الجماعات، والسليقة التي لازمتنا في حالات الثبات والسكون التي انتهجها مثقفونا في المراحل المتسمة بالتقليدية الرثة، والتي تَعود أو استعود عليها القارئ العربي عامة، والفلسطيني خاصة، في مرحلة الإنتاج السردي غير الإبداعي في تفصيل وتقديم المحددات الهامة في تاريخنا وميراثنا التاريخي، أو حالة الوصف العامة لمفاصل جوهرية لها من الأثر ما يدعونا للإبداع في تقديم تلك النماذج، بنمطية التشوق، والتشويق التي تنتج أريحية انطباع أولية، ويُسر في هضم النموذج بجوانية، واستكشافه من زوايا خلفية، تضفي إليه صورة حية، وفضول في الإستزادة عن الحالة والظاهرة.
وبطبيعة علمية ثابتة، غير قابلة للجدل والسفسطئة في التعاطي معها، فإن أي ظاهرة لا تُولد طبيعة، ولا تَمر بمراحل طبيعية كما غيرها من الأحداث العادية، فالطبيعي أن تتشابه الأحداث في معطياتها، والشخصيات في ميلادها ونشأتها ونموها، وانتمائها، ولكن من غير الطبيعي أن تتشابه الظواهر مع الأحداث العادية، وهو ما شكل دافع للسؤال عن ميلاد أبو علي مصطفى بما أنه مثلل ظاهرة، واعتد به كظاهرة من ظواهر الفعل المؤرخ بالذاكرة النضالية الثورية، الفكرية الفلسطينية، من هنا فإن الظواهر لا تتماثل بالميلاد والنشأة مع اللاظواهر، وإنما في طابعها العام تبدو متشابهة، أما في البواطن والجوهر فلا يمكن لها التشابه أو التماثل مع اللاظواهر. وهو ما يفسر سؤالنا، ويضعه في السياق الطبيعي للمتلقي.
ولد الشهيد أبو علي مصطفى في مدينة القسام، وأسطورة الصمود في انتفاضة الأقصى أمام هجمة (آرئيل شارون) رئيس وزراء إسرائيل، في عرابة قضاء جنين سنة 1938م، وهي جزء من أجزاء تضاريس القيادة التي استلهم دروبها منذ دراسته الإبتدائية في هذه القرية، وهذا الوسط القروي الذي أضفى ملامح النقاء، والصفاء، والبساطة لهذا الطفل، الذي غادر القرية وهو في الثانية عشر من العمر مع أفراد أسرته متجهاً إلي عمان(الأردن) 1950م مكملاً مسيرته العلمية والتعليمية، لتكتمل ملامح البناء الشخصي لفلاح صغير، بدأ طفولته مرتحلاً من مزرعة والدة، ومن صمت القرية الهادئ الشاهدة على اغتصاب جزء من الوطن على مرمى البصر من صرخة طفل استبقت الكارثة بعشرة أعوام.
هذه هي الطفولة غير الطبيعية، وهذه هي الملامح التي نُصبت كشاهد في ذاكرة صبي بدأ يرسم بأنامله بسملة القيادة فوق صفحات شاهدة على معاصرة النكبة، واغتصاب الأرض.
إنه الميلاد المؤدلج بفكر وأيديولوجيا البسطاء والفلاحين أكثر من يستشعر ماهية الأرض، وماهية الإنتماء للأرض، والصلة الحقيقية بين الإنسان والأرض، بحميمة ووجدان تجذر الحب بالإصرار، العاطفة بالإرادة، الصبر بالجلد، من طفل ترعرع في سنواته الأولى بين أحضان الأرض وابتسامات الزرع.
هل حملت طفولتهم أحلام الصغار؟!
نموذج يكاد يكون مكرر الحديث عن أحلام الطفولة الطبيعية، التي تحلم بدمية أو لعبة تعبث بها مع الأقران والأطفال، ورحلة للهو في ربوعها الصحية النفسية، لطفولة تزهو بالبراءة والصفاء، لا تستدرك محيطها وهمومها في حدود العبث الطفولي البرئ، لن تخوض جدال أو عصف ذهني عند الحديث عن أحلام طبيعية لطفل طبيعي، لا يرهق نعومة أنامله في البحث عن التاريخ وتضاريس السياسية، وصوت البارود المتشظى بكوابيس الثأر والإنتقام. هي الفلسفة التي تضعنا أمام استحداث مفاهيم خاصة في المقاربة بين طفولة طبيعية في مسار النمو الطبيعي عقلياً وجسدياً، وطفولة غير طبيعية في مسار غير طبيعي عقلياً وجسدياً، ليبدأ البحث عن سبيل لتحرير الأرض، والإنسان، ومقارعة مبوقات التاريخ المزيف التي يتم صياغتها عنوة من أقوام جلبت لفلسطين بمؤامرة إستبدال شعب بشعب.
هي الأخيرة طفولة هذا الفلاح الصغير الذي بدأها بنقش أحلام طفولته غير الطبيعية بمفاهيم كبيرة خارج إطار الحلم الصغير، وخارج استيعاب أحلام الطفولة العادية، هي من وهبت أبو علي مصطفى(مصطفى الزبري)، إبن السابعة عشر ربيعاً ملكات مميزة في البحث عن مرشده الفكري الثوري، ليدرك الفكرة بفعل طفولته اللاطبيعية، ويبدأ بالإندماج بحركة القوميين العرب 1955م، من خلال مشاركاته في النادي العربي القومي، ومواجهاته مع زملائه (للسلطة) أثناء معركة الحركة الوطنية الأردنية لإلغاء المعاهدة البريطانية- الأردنية، وتعريب الجيش الأردني، وطرد الضباط الإنجليز وقائد الجيش(غلوب باشا).
هي اللحظة الفارقة في الممايزة بين أحلام طبيعية لا تُدرك إلاّ اللهو، وبين أحلام غير طبيعية أدركت أهمية العروبة وضرورات التعريب، ومفاهيم الخلاص القومي، ومحاربة التبعية للإستعمار، التي استدركها أبو علي مصطفى منذ صباه.
ثالثاً: التأطير الفكري في شخصية أبو علي مصطفى:
تطرح شخصية الطفولة غير التقليدية صورة أخرى أكثر تأثيراً في رسم المسار الفكري المحدد لملامحها، واتجاهاتها، وتطورها المفاهيمي في إدراك الفكرة منذ إنبلاج الفجر الكاريزمي لشخصية القائد أو المفكر، وتحديد ملامح العلاقة بين الجزء الوطني والعام القومي، في مزج خليط من الملامح الذاتية والأفكار الأكثر أدلجة في تحديد طبيعة وحدود الصراع بناء على أسس مفاهيمية مستدركة من عمق الفكرة، وعمق الشخصية المتملكة للتحليل منذ إرهاصات تكوينها وبلورتها. هي سمة (حامل رسالة) وأي رسالة التي صاغتها أنامل طفلٌ لم يعشِ كالأطفال في ترف الحياة، أو بيئة نموذجية تصاغ أركانها بعيداً عن الأرض، والأقدام التي غاصت في تربة الحقل، وأدمتها أشواك الصلابة والتحدي.
هذه الطفولة كان لها الفعل المؤثر في ريعان الشباب كمرشداً للفكرة الصواب، والقدرة على تحديد الرؤية ذات الإتجاه المؤدلج بأيدولوجيا تمتلك ما لم يمتلكه غيرها في رسم معالم النضال الثوري الأممي في سن السابعة عشر توج أبو علي مصطفى محطات العفوية والتلقائية التي خاض بها مع أقرانه صراع ضد السلطة الحاكمة في الأردن ومقاومة المعاهدات التي تُحد من حرية الإمارة حديثة الإستقلال، وانجلزة الجيش الأردني، وسياسات رئيس الوزراء(سليمان النابلسي) التي منعت نشاطات الأحزاب آنذاك، واعتقل على أثرها لمدة أشهر في نيسان 1957م، وتم محاكمتهم عسكرياً، وزج بهم في سجن الجفر الصحراوي، ليطلق سراحه سنة 1961م، مستزيداً، من السجن إصرار، وعناد المقاتل، وهمة الشاب التي تتفولذ أمام التحديات.
أدرك أبو علي مصطفى طبيعة الصراع مع الصهيونية، واستلهم بفطنة المفكر جذور هذا الصراع، وصيرورته التاريخية، مما يلهم القارئ لسيرة أبو علي مصطفى امتلاكه لملكات وقدرات الإستشفاف للواقع بتحليلاته الأيديولوجية التي ساهم فيها عامل آخر، الإمتداد القومي في هذه الحقبة من الصراع مع الصهيونية، وقراءة مفاتيح الصراع المفتوح تاريخياً كعدو وليد للإمبريالية، وهي ليست لحظة تهور أو انكفاء عابرة لدى أبو علي مصطفى، بل تعبير عن حقيقة ثابتة راسخة في مداميك البنية الذاتية التي تشابكت بعوامل التأسيس لنضال تحرري ثوري فكري متأصل، أدرك الفكرة وتثبت بها.
عاد من رحلة الشباب للإنضواء في الحركة القومية العربية، بادئاً مشواره الكفاحي بقيادة شمال الضفة التي شكل بدوره بها منظمتان(الأولى للعمل الشعبي، والثانية للعمل السري العسكري)، ثم أصبح عضواً في قيادة العمل الخاص في إقليم الحركة الفلسطيني.
أدرك أبو علي مصطفى أن عملية التحرر عملية قومية واجتماعية مترابطتان، مما شكل لديه قدرة على المزاوجة ما بين النضال العسكري التحرري للأرض، والنضال الفكري الثقافي التحرري للإنسان، والعمل من خلال الفقراء، ومقاومة الظلم والإستبداد الاجتماعي من خلال نقل الوعي إلي قوة الفعل السياسية- الاجتماعية المنظمة في إطار وسياق مواز، وهو ما مثل لديه الحافز في أعقاب هزيمة 1967م بالاتصال (بجورج حبش) لإستعادة العمل من جديد، والتأسيس لمرحلة الإنطلاق والعمل العسكري، والتي بموجبها كان أحد مؤسسي (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) وعبر بالعديد من الدوريات إلى فلسطين، في محاولاته لإعادة بناء الخلايا العسكرية، والتنسيق بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وتولى مسؤولية الداخل في قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن ثم مسؤولها العسكري في الأردن وقاد معارك المقاومة ضد الإحتلال، وكذلك في أحداث أيلول الأسود 1970م، وحرب جرش وعجلون 1971م.
لم يثنيه عمله العسكري عن متابعة رؤيته العميقة في تحديد طابع الضرورات الفكرية النضالية، ومثابرته الدائمة في ابتكار العمل المتجددة لمواجهة الصعوبات والتعقيدات والمعارك التي واجهت الثورة الفلسطينية في مسيرتها الطويلة والصعبة.
وهنا يصفه (جورج حبش): "كانت علاقتنا وثيقة تقوم على أساس الإحساس العميق بالهموم الوطنية والقومية، بالهم الجمعي، وهموم الشعب الفلسطيني بأكمله في الداخل والخارج في الوطن والشتات، في المدن والقرى والمخيمات. كانت علاقة حميمة تتضح مع كل حوار وكان إلي جانبي مؤسساً في الحركة والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".
خاض أبو علي مصطفى مرحلة الجدل السياسي التي عصفت بالساحة العربية القومية، ما بعد نكسة حزيران 1967م، حيث ترسخت الدعوة بضرورة التأسيس لهوية وطنية خارج سياق البُعد القومي، ودعوات الناصرية بالوحدة العربية(القومية)، وهو ما أوجد حالة إعتراض مطلقة من حركة القومين العرب، ترافقت وتزامنت مع وجود أبو علي مصطفى في السجن في تلك الحقبة التي شهدت جدلاً واسعاً، إلاّ إنه ساهم في هذا الجدل وكان له أثر فيه حيث بدأ منذ خروجه بإعداد منظمات وخلايا الحركة لمباشرة الكفاح المسلح، ما تماهى مع بعض أطروحات أصحاب النظرة الوطنية بضرورة انطلاق العمل المسلح.
ومع هزيمة 1967م وبلورة موقف واضح لحركة القوميين العرب أخرجها من حالة التماهي مع الناصريين واحتدام الصراع بين الجبهة الشعبية والنظام السوري الذي إعتقل على خليفتها (جورج حبش) تعاظمت مسؤوليات أبو علي مصطفى، في مواجهة الخصومات مع النظام السوري، والصراعات الداخلية التي بدأت تتضح في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والذي أدى لإنشقاق تيار القومي الأردني (نايف حواتمة) 1969م ما دفع أبو علي مصطفى لعدم التمييز بين المقاتل والسياسي، وهو ما تجسد في المؤتمر الثالث للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 1972م الذي أصبح للجبهة الشعبية نظام داخلي نص على:"أن كل عضو سياسي في الجبهة، هو مقاتل، مثلما أن كل مقاتل هو عضو سياسي"، وكان دلالة على عمق رؤية، وبُعد تحليل أبو علي مصطفى للمستقبل.
أدرك أبو على مصطفى أن النظام العربي ليس نظاماً واحداً منسجماً، وبنى إستراتيجيته الوطنية بناءً على العديد من الملاحظات التي صاغها وحددها، من خلال ربط القومي بالوطني أو العكس، في معرض تشخيصه للأوضاع العربية المتردية، وتراجع المواقف العربية من القضية الفلسطينية، وكذلك إدراكه للحالة الدولية، التي تمترست خلف إصدار القرارات والتساوق مع سطوة اللوبي الصهيوني على ملاعب السياسة الدولية ناجحة في تجميد هذه القرارات وتسويفها.
تسارعت وتيرة الأحداث الفلسطينية في العام 1968م مع إستقالة أحمد الشقيري من م.ت.ف وبدأت الفصائل الفلسطينية تتجه للهيمنة على المنظمة وتشكيل مجلس وطني فلسطيني ممثل لهذه الفصائل، وبدأت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تبحث عن صياغة في هذا الواقع، لعب أبو على مصطفى دوراً مميزاً في هذا المعترك الذي جاء في خضم مسؤولياته العسكرية بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وغياب الأمين العام ( جورج حبش).
تتوالى المسيرة وتشتد وطأة المسؤوليات على كاهل أبو على مصطفى، ليشغل عام 1972م موقعاً جديداً بمسؤوليات عظام أخرى تضاف لمسؤولياته، حيث إنتخب نائباً للأمين العام، خلال ثلاثة عقود متصلة بذل فيها أبو على مصطفى فناء الروح والمثابرة في العمل الوطني، وتميزه بالنمطية الوحدوية القائمة على تحديد ملامح الصراع مع العدو الصهيوني أولاً، ولفظ أي صراعات ثانوية في معترك المعركة الأهم، وعدم السماح للإنحراف في بوصلة هذه الإستراتيجية العقائدية في فكر وممارسة أبو على مصطفى. محافظاً على ثباته ورؤيته حتى تم إنتخابه سنة 1999م أميناً عاماً بعد إستقالة جورج حبش الأمين المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
إتضحت ملامح التأطير الفكري في شخصية القائد والمفكر الذي عمل بصدق ونقاء، وحالة من نفي الذات في أُطر العمل الوطني الفلسطيني، والقومي العربي، وتميزه بحرصه الشديد كمحاور وطني تجلى دوره في مراحل الإنقسام السياسي التي أحدثتها هزات التنازلات لقيادة م.ت.ف التي تصاعدت وتيرتها إلى أن وصلت إلى أوسلو 1993م.
الموقف الأخير من مشروع أوسلو ربما يعيد لنا الإتجاهات في البحث والتنقيب عن خلفيات الصراع وأولوياته ما بين الإستراتيجي مع العدو الصهيوني، والثانوي مع القوى التي تبنت السلام كمشروع لها بعد عام 1974م، وهنا فالرؤية التبسيطية للمتابع عن بُعد تؤدي لتوجيه الإنتقادات للجبهة الشعبية عامة، لسياساتها غير الحاسمة مع فريق الإستسلام، ولكنها تؤكد أن قيادة الجبهة الشعبية بأمينها العام وبنائب أمينها العام أبو على مصطفى لم تسجل بالتاريخ إنها ساهمت أو تساهم في شق الصف الفلسطيني وتحويله لساحة صراع، تعصف بالقضية الوطنية ومكتسبات الثورة الفلسطينية، من أجل حسم الصراع السلطوي، بقاعدة العمل للوطن كموجهات عامة، ورغبات شخصية لم يدركها البعض، ولم يستطع البعض قراءة الجانب الوجداني لقادة لم يعتد بهم البحث عن مكتسبات الذات، أو الإقلاع في مطار آخر لا يقلع منه شعبهم وقضيتهم.
إمتزج أبو على مصطفى بالفقراء والمضطهدين، ومع أبناء شعبه ليبدأ مسيرة المواجهة والمجابهة في خندق الإيثار والتضحية، والطهارة الكفاحية، والشفافية النضالية، والواقعية الفكرية، ناكراً للذات، كدلالات نابضة عن الفكرة التي حملها الصبي المرتحل من قرية صغيرة شاهدة على إغتصاب وطن، وإقتلاع شعب.
رابعاً: أبو على مصطفى وآخر المحطات:
أبدأ بما قال: (أحمد دحبور)
لست مكفوفاً ولا قارئ غَيبْ
ليس لي أن أهمزَ الخيلَ
وأن أطلبَ ثارات كليبْ
فأنا لا أملك الآن سوى
دمعة راودت السيّابَ في ذكرى بُوَيْبْ
إن يكن للحزن وقت، فهو هذا
غير أن الحزنَ
من أسمائه الحسنى" لماذا؟"
فلماذا؟
بادئة البحث عن شراع رفعه أبو على مصطفى في اللإختيار للمحطة النهائية في مسيرة الخالدين، التي تهاوت تحت اقدامها وديمومة أفكارها كل خرافات السقوط، وتآكلت من جبروت نضالها كل عروش الأرض، وإعتلت صولجان الإرادة والثبات في مواجهة الذات أولاً، والقهر ثانياً، لترسم معانِ الأسماء، وتفتح آفاق المستقبل لملامح الوطن، وتضع أسس وقواعد الحلم بعودة البلاد لأهلها، وركض الطفل خلف فراشاته في بيسان، وحيفا، ويافا، وعكا، وسهل غزة، وجبال الضفة.
هي تلك المحطات السابرة في مسيرة من أراد لدمائه الإنسكاب في محبرة التاريخ، وريشة الزمان تنقش ألوانها على خارطة وطن يتخذ من الأسماء أنقاها وأكثرها جمالاً لغوياً في بحور الشعر، وقصائد الأغنيات.
دروس نموذجية للتاريخ عن الإنسان والصدق، تصوغه إرادة متكأة على وعى ابجديات الوطن، ومفاتيح الصراع، قوانين الدمج بين السياسة والثقافة، وقوة الدفع الفعلية من الفرد إلى الجماعة، من أجل التحرر من براثن التخلف الإجتماعي، والقهر الطبقي، وصهرها في ملحمة المواجهة مع العدو الصهيوني، ليضحى قدوة ومرشداً يرسم في قرية أول الحروف وينهى أخر الكلمات بالدم على مشارف جنين، دون أن تخفت يوماً إرادة المقاتل، أو حكمة القائد، أو فكرة المفكر، والحفاظ على الروح متوثبة رغم ضجيج المنافي، وصقيع المؤامرات، وثلوج الصيف التي لم تسقط إلاّ لتشل أطراف المحاربين بالبندقية والفكر في أزمات مضطربة، وتضاريس عاصفة، لتخط صياغات حكيمة تمد الوطن وأجياله بدفء المثابرة الكفاحية، وفرض السلوك ببساطته كملح الثورة الذي لا يذوب في ترهات التآمر.
أراد أن ينقل الصورة المرسومة في منافي الثلاثة عقود المعتمدة على التقارير كصلة ربط بينه وبين الوطن، إلى رؤية الإنسان بلا فوتوغرافيا مكبرة ومصغرة للحجم الطبيعي، ومعرفة أجيال لم يتعامل معها أو يعرفها، وتدرس تجربتها المختلفة عن تجارب السلف، تلك الأجيال التي نمت مع الثورة، وصنعت صفحات مشرقة دون أن يعلمها أحد صياغة الابجديات والقوانين الثورية.
هي الرؤية التي أدت بأبو على مصطفى للتوجه متحدياً كأمين عام للفصيل الثاني بمنظمة التحرير الفلسطينية إلى الأرض المحتلة، حاملاً الإرادة التي إتصف بها، والتحدي الذي عرف به، ليعيش نبض الوطن من على الأرض، وإحساس المقاتل بين شعبه، ورؤية (الغول الإستيطاني) يلتهم أجزاء من الروحية الفلسطينية.
فكانت محطته الأخيرة عام 1999م إلى خضاب الزهر المتفتح في مخيلة أبو على مصطفى، والبيلسان المتهدهد على أكتاف الربيع المزهر في مسيرة هذا القائد الذي أنكر ذاته، وإختار الوطن مرقداً أخيراً يؤازر به جموع شعبه وأهله ويسجل في سجل الإيثار، عودة مَثلت جدلاً بين الأطر الحزبية للجبهة الشعبية، والكل الوطني، وضرورات العمل على قاعدة البناء لخطاب العودة الذي حمل صوابية الإنسان وعواطفة، وأخطاء فقدان قائد له صفات وطنية ومتطلبات تتجاوز الوجدانيات.
رام الله صباح السابع والعشرون من آب 2001م كان اللقاء اليومي مع نسمات الغدير من أنهر التحدي والوفاء التي سطرتها مضارب الإنتفاضة لتمثل بداية الحرب المعلنة على قيادة الشعب الفلسطيني، فاتحة السماء لطائرات الأباتشي الصهيونية لإطلاق صواريخ البدء في إشعال حرب التصفية، والإغتيال، وترتقي روح القائد المفكر الوطني أبو على مصطفى للعلا معلنة ميعاد الثأر والإنتقام، مسدلة ستارة بيضاء تحملها طيور العنقاء في رحلة أساطيرها لتكتب للأجيال أن هناك من سجل للتاريخ لحظة تاريخية بوفاء ونقاء، ودماء، وروح لا زالت تحيا في سماء وطن شريد من بين إبهام صائغي التاريخ.
خامساً: كلمات من وحي الإعتراض على الموت الطبيعي:
ليس الخواتم دوماً تسعف الذاكرة في التعريج على كل التفصيليات وتناولها كيفما يحلو لنا أو نريد، بل تعترضنا العديد من المعترضات الموضوعية، أو الوجدانية في تسخير كل الأدوات التي تمكننا من رسم ما نصبو إليه ونتأمله، ويبقى الإجتهاد خاضعاً للصواب والخطأ، ورغم ذلك كان لنا اجتهاد بعيداً عن مفصليات السياسة والنقد، والتحليل في سبر الأحداث بمسمياتها التاريخية، أمام وحي الموت اللاطبيعي للطفل اللاطبيعي في تكوينه الذاتي في إنشطارات التقليدية التي تلقي علينا التحية كلما أمسكنا مدافع أقلامنا نقصف بِها مستعرضات البّحث والتنقيب في آبّار الذاكرة المكتظة بكل الإتجاهات.
ولكن! الحقيقة أزفت، والمرج أنبت سنابله الخضراء في بستان الربيع المُتلون بالإخضرار الفكري، والنضّالي، في مدرسة ذات نمط خاص، ومنهج خاص بنائه الأساسي ثورية متواصلة الأطراف، متكاملة الأركان، مبادئها ثابتة بتربة طيبة، وجذور ممتدة عبر الزمن ورحلات التأريخ المتآصلة بجنازة الأشجار المكلومة بخريف يقتلع أوراقها، ولكنه لم يقتلع إمتدادها المتثبت بالأرض بقوة الإلتحام.
تقدمَ
وإجتاز الخيلاءُ
كيف صار؟ شاهدُ
ببّلاط الفداءُ
وأصبحُ
بشوارع المخيمُ
مقيم بإنّفراط
تقدمَ
من بعيدُ
وقام
يتلو آياتُ
برؤوس الرماحُ
فهل لا زلنا أوفياءُ؟
كل ما قيل بعد الأذان
وقبل الآذان
شدّ لسيد الأرض
من آول آب
قمرُ
أحمر الضياءُ
حرر السلاسلُ
وإحتسى كؤوس
من الزعتر
مغيباً
الموتُ
في الإغتراب
أيا رفيق الفكر تَقدم
فإننا لم نتقن
نهجُ
الأوفياءُ
0 comments:
إرسال تعليق