يوم الاثنين، الساعة السابعة والنصف صباحًا، في باحة سجن الرملة الكبير لا أثر لوداعة الصباح. في كل زاوية خيبة واكتظاظ يزيدني عصبيّة وهذه تفقدني ما أحتاج إليه من قوة وتركيز. ينقذني حظي وحجم سيّارتي. أريحها وأهرول.
فجأة ينتابني شعور بأنني لم أقفل أبوابها، لكنّني، وليس كما في كل مرة ينتابني هذا الشعور، أتقدّم باتجاه بوابة السجن، فوراءها تنتظرني "جهيزة" عساها تبدد ليل الشائعات الذي كان ثقيلا.
لم أنم ليلة الأحد، وكان أرَقي فيها أكثر من أرَق الليالي المألوف. على مدار ساعات أمطرني أصدقاء وأهالي الأسرى وصحفيون "بأخبار" وصلتهم وأكّدت بأن ثائر حلاحلة قد استشهد، وفي روايات أخرى كانت الشهادة نصيب بلال ذياب وقلة قالت إنه حسن الصفدي. لا أعتقد أنّنا قوم يتميّز بصناعة الشائعة أو نتفرّد بأنماطها وطرق تلقّيها أو الحرص منها، لكنّني على يقين أنّنا أبطال نجاري باقي الأمم، في هذا المضمار، ولنا حيّز في الصدارة.
لم أنم في تلك الليلة. خفت من صباحها أن يكون بلون الدم وبطعم الخسارة في بدل الوقت الضائع. فليل الشائعات طويل وصباحه من ضباب.
ببعض من استغراب يرد علي السجان التحيّة ويحاول إنهاء الإجراءات بسرعة، فلولا الضرورة والأهمية لما حضرت في مثل هذه الساعة .في مدخل المشفى سجّان لم أقابله من قبل. من ردة فعله الأولى عرفت أنه لم يفق بعد من وردية ليله الهادر. أمامه وقفت وهو كأنّه "نيجاتيف رجل"، مرّت الدقائق، ببطء كالثلج يذوب ويحرق أطراف أعصابي. لم أحتمل. فجأة، صرخ خوفي فأخافه فاستدعى مسؤولَه وكان فرج.
جميعهم كانوا هناك. قابلتهم واحدًا تلو الآخر. بسماتهم، كنجمات الليل، أطلّت من خلال ضباب فبدّدته. بسمة معها ينسلّ قلقي ويرحل. بحناجر متعبة روى كل واحد سيرة الساعات الأخيرة، قصصًا عن سفر على غيم وغفوة وعن عودة للروح والوعود، كانثيال النور في السبت العظيم. إصرار على حريّة هي أقوى من قيد ومن سجن، وعلى حياة هي أخلد من ظلام. ليل الشائعات هُزم وانتصر الصباح. غادرتهم وعرفوا أن النهار هذا حاسم، والمساء سيكون، ربما، كما يتمنى العاشق وتطيب للناسك صلاة.
من هناك أخف إلى رام الله. أُطمئن قلقين ونتابع تداعيات اللقاء بين لجنة مصلحة السجون الإسرائيلية واللجنة العليا للإضراب. بعد العديد من الاتصالات والاستفسارات نفهم أنّ اتفاقًا قد وقّع بين الأطراف وأن الإضراب انتهى.
الساعة السابعة مساءً. أنا في بيتي. يهاتفني مسؤول من مصلحة السجون الإسرائيلية ويخبرني أنّه سيتوجه من سجن عسقلان إلى سجن الرملة لمقابلة "نزلاء" مشفى السجن هناك. يطلب منّي أن أحضر وذلك بناءً على طلب الإخوة في اللجنة العليا للإضراب الذين هم بصحبته. أوافق بعد استشارتي من أثق.
الساعة الثامنة والنصف ليلًا. ما زالت باحة سجن الرملة هناك. وكما في الصباح كذلك في الليل، لا أثر للوداعة. المكان خال من السيارات، والظلمة توحي بعيون خفيّة تراقب وتملأ الجو ريبة. في مدخل السجن ينتظرني ضبّاط بلباسهم الرسمي. ندخل، معًا، إلى بطن "الحوت".
أبواب حديدية تُفتح. لم أعدّها لكنّها لم تكن كافية لحبس الألم ولا أمل من لن يقايضوا ولن يهينوا. لم تتح لي، في الماضي، فرصة لأزور المكان من الداخل. انتابني شعور غريب، كنت فيه حرًا بالمطلق، دمي تدفّق وكأنّه خارج شراييني. قوة لم أشعر بها من قبل سكنتني، اختفى من داخلي شعور الخوف وكأنني صرت مخلوقًا من خرافة وطين. لا قيمة لشيء فكل شيء عندك فإما أن تربح وإما أن تربح والخسارة، لا محالة، لغيرك. فأنت وأنت والسماء ولك الحياة ولهم خوف الناموس من الريح وصكيك الحديد على الحديد. ليلك ليل المظلومين، حنين وسحر، وليلهم ليل الظالمين، خوف وسهر.
مشيت وأحسست بثائر وحسن وعلى الجدران، لاح حنينهم مخطوطًا: ما نفع الحياة بدون حريّة! وفي كل حنايا المكان صدح الصوت: وما نفع الحريّة بدون كرامة. هكذا كان الصوت حرًا والحنين سابحًا رغم أنف الأبواب والقهر.
بعد لقاء قصير، فيه تعرفت على "المضيفين"، انتقلت إلى غرفة فيها ثلاثة من أسرى الحرية (جمال، جمعة وبسّام). ثلاثة ينوبون عن اللجنة العليا لقيادة الإضراب. بحرارة وحب يعانقونني وفي صدر كل واحد أودع قطعة من قلب وشوقًا كبيرًا. معًا ننتقل إلى الطابق الثاني. ندخل إلى غرفة كبيرة تشبه مكتبة معدّة لطاقم السجن. هناك نجد الستة فرسان. كل واحد في كرسيه المتحرك. يجلسون وعلى وجوههم تعب كثير. يحاولون أن يخفوا لونهم المصفرّ من شوق للورد وشح في ضوء القمر. يفاجَأون برفاقهم. ويفرحون كما يفرح المهاجر في حضن الوطن.
طال اللقاء. شرح الإخوة الثلاثة تفاصيل الاتفاق الذي وافقت عليه إسرائيل وعن دور مصر في عملية التفاوض وكفالتها لتطبيقه بما يتماشى والتفاهمات بين الدولتين. خشي المضربون من غدر إسرائيل ونكثها بالوعد وتوجسوا كذلك من عدم التزام المصريين بما كفلوا وما ضمنوا. ستة ما استسهلوا قبول ما طلبه رفاقهم، وخافوا من أن يذهب صمودهم سدى. ستة عرفوا أنهم يواجهون الموت في كل لحظة وما هابوا. وثلاثة وأكثر أعلنوا: لا نريدكم إلّا أحياءً، فلقد وهبتم فلسطين مفخرةً وسطرتم أغلى قصيدة للحياة وللشرف والعزة، لقد انتصرتم على جلّادكم وعرّيتم خزيه ووهمه. أنتم أحرار. قريبًا سيعود كل واحد منكم إلى بيادر أحلامه وإلى أحضان أحبابه، ستعودون إلى وطن هو بحاجة لأمثالكم، فبكم ومعكم لفلسطين حياة.
كانت ليلتنا طويلة ومرهقة. وكنت شاهدًا على من سيكونون، بعد تاريخ، أبطال سيَر ومواضيع بحث، يدقق أصحابها ويجادلون إن كانوا أشخاصًا من لحم أو ظلال أحلام أو أساطير ذاك الزمان.
في ساعة سَحَر نديّة زغردت أم حينما سمعت البشارة من ابنها، وبكت فقد كانت هي صاحبة الوعد والميلاد. على هدير زغرودتها تركت السجن وتركت فيه أحرارًا ينامون على ورد وغيم وزند مستقبل وارف، وفيه تركت أشباحًا ستبقى ظلالًا لتاريخ باهت، وذاك في يوم انتصرت فيه زغرودة أم فلسطينية على صوت الحديد والوهم.
_______________________________________
جواد بولس - كاتب ومحامي متخصص بالدفاع عن سجناء الحرية الفلسطينيين
jawaddb@yahoo.com
jawaddb@yahoo.com
0 comments:
إرسال تعليق