أولاً : أول مرة ..
** يتصادف أن يوم الأحد 17 مارس لهذا العام 2013 الذكرى السنوية لنياحة المطوب مثلث الرحمات المتنيح الأنبا شنوده الثالث .
أتذكر أول مرة إلتقيت بقداسته كان في رؤيا . كنت " في الرؤيا " متوجها إلى أحد الفنادق الكبيرة وأتذكرأنني كنت صاعدا الدرج فلفت نظري وجود قداسته أمام " الريسبشن " ومعه لفيف من الأباء الكهنة والمطارنة والمفاجأة أن قداسته أشار إلي بالنزول . توجهت إليه ووقفت أمامه . مد يده وأخذ قلمي وبدأ يكتب في السجل الذي أمامه . بعد ما إنتهى من كتابته وضع القلم في مكانه وهو يبتسم ثم ربت على كتفي . طبيعي إستيقظت ولم أكمل نومي . منذ ذلك اليوم وأنا أحرص على إستقباله وتوديعه وتغطية تحركاته إعلاميا ونيل البركة .
** أتذكر أول مرة إستمعت فيها إلى أغنية عبد الحليم حافظ " أول مرة تحب ياقلبي ، وأول يوم تتهنى ، وياما على نار الحب قالولي ولقيتها م الجنة ، أول مرة ... ".
كنت أحلق في سماء الحب وأعيش في جناته وأتخيل كم هو جميل حقا الحب . لكن مع جماله وجنته يوجد ثمن يدفع للحب وخاصة إذا كان العاشق المتيم مازال طالبا في السنة الثالثة ثانوي علمي وهي الفيصل لتكمل دراستك إلى السنة الرابعة ثم إلى التوجيهية إما أدبي أو علمي . وكانت أول قبلة من بنت الجيران فوق سطح منزلهم . وآه منها قبلة إنتهت بي بالرسوب في جميع المواد معادا الرسم على الرغم من اني أحب الرسم ولا أتقنه .
كانت صدمة حقيقية بالنسبة لي . سألني المرحوم أبي عن النتيجة فأخبرته برسوبي في مادتي العربي والإنجليزي فقط . فطلب مني أن أبحث عن المدرس الذي سيساعدني حتى أنجح في الملحق .
في المنزل أخبرت المرحومة أمي بحقيقة رسوبي في جميع المواد وأنني أخبرت أبي برسوبي في مادتين فقط . وأنا سأحتاج إلى دروس خصوصية في جميع المواد . صمتت ولم تتكلم وتركتني لتكمل ما كانت تفعله . لكم أن تتخيلوا الحيرة التي تركتني فيها . ومما لاشك فيه كانت تقدر حالتي . لذا بعد أن أنهت ما كانت تفعله نادت علي وأجلستني أمامها وقالت لي أنها ستساعدني في مصاريف بقية المواد ولكن ستدفع أنت من مصروفك وتشاركني في دفع المصروفات . ثم أكملت دون أن تترك لي فرصة وقالت لي سأعيد لك كل ما أخذته منك من مصروفك الشخصي في حالة نجاحك . قبلت يدها وإحتضنتني بحنان الأم . وبالفعل دخلت الأمتحان وأنا كلي ثقة .
حدث في الليلة التي سبقت ظهور الأمتحان بدون شك كنت قلقا فرأيت في منامي أنني متوجه إلى المدرسة لأعرف النتيجة . لكني توجهت إلى مبنى غير مبنى المدرسة . ومع ذلك صعدت الدرج متوجها إلى غرفة الناظر . الباب كان مغلقا . طرقته دون مجيب . حزنت وبدأت أهبط الدرج لكنني شعرت برهبة . تطلعت أمامي فرأيت الرب يسوع المسيح واقفا وأشار إلي بالهبوط . توجهت إليه وسألني لماذا أنت هنا ؟ أجبته من أجل معرفة النتيجة . نظر إلي وقال إنت ناجح . من الفرحة شكرته وهممت بترك المكان . لكنه إستوقفني ومد يداه حاملا " قطة " من النوع ذا الفرو الكثيف ولكنها ميتة . أخذتها منه وحملتها بين يداي وطلب مني أيضا أن أحمل مزمور الملاك ميخائيل دائما معي .
في طريقي إلى المنزل وأنا حامل للقطة الميتة إذ بكلب وولف " جيرمان شيبرد " متجه نحوي وهو ينبح مهاجما . وكانت المفاجأة . القطة الميتة قفزت من بين يداي وطاردت الكلب الذي إستدار هاربا منها . وهنا إستيقظت حتى الصباح حيث توجهت إلى مدرسة محمد فريد الثانوية في الأفضل بالترعة البولاقية وكانت النتيجة نجاح لم أحققه في حياتي الدراسية قبل ذلك ولا بعد ذلك . ناجح في جميع المواد التي رسبت فيها ودرجات النجاح في كل مادة 48 من 50 . وصدق من قال ( فتش عن النسوان تجد سبب الأحزان " الفشل والرسوب " ورمش عين الحبيبة يفرش على فدان ) .
** في يوم الأربعاء الموافق 18 من شهر أغسطس عام 1971 توجهنا عائلتي وأنا إلى مطار القاهرة الدولي للسفر إلى بيروت ومن بيروت السفر إلى أستراليا .
في المطار قام الزميل يوسف ضابط ببرج المراقبة بالمطار مشكورا بمصاحبتنا في الجمارك وبعدها إلى الطائرة " ميدل إيست " اللبنانية ودخل معنا الطائرة إلى أماكن جلوسنا . وهو يصافحنا مودعا قال لي أن الطائرة لن تقلع إلا بعد ساعة كاملة لأننا جميعا " زملاء الدراسة بكلية الآداب جامعة الأسكندرية " متأكدون من أنك لن تعود إلى مصر إلا للزيارة . إبتسمت وأخبرته لا يمكن أن أنسى مصر ولن أنساكم لا تخف مصر في قلبي ووجداني . ودعنا وهبط من الطائرة وتم إغلاق الباب والأستعداد للأقلاع .
بالفعل بدأت الطائرة في التحرك . تحركت الطائرة ولكن ليس إلى الممر ولكن إلى مكان الأنتظار . مرت ساعة كاملة كما أخبرني الصديق . بدأت الطائرة في التحرك متجهة إلى الممر الخاص بالأقلاع وكانت هذه أول مرة لي ولأسرتي ركوب طائرة بدأت المضيفات بالمرور وكانت عن يساري مضيفة واقفة بممر الطائرة تحاول مساعدة أحد الركاب . فجأة وجدتها منكفئة على الركاب وذهلت من هول المنظر يبدو أن الطيار جنح ناحية اليسار لسبب ما . بالفعل تحدث أحد المضيفين معتذرا عما حدث وأخبرنا بأن الكابتن تفادى إصطداما مؤكدا مع طائرة مضادة تنزل في إتجاه نفس الممر الذي صعدت منه الطائرة التي كنا بها . ويالها من ذكريات .
ثانيا : أخر مرة ..
** أخر مرة هذه لها أيضاً إرتباط بقداسة البابا الأنبا شنودة الثالث بطريرك الكرازة المرقسية في زيارته الأخيرة لنا في أستراليا في شهر فبراير عام 2002 .
عقد قداسته المؤتمر الصحفي بقاعة كبار الزوار بمطار سيدني . امتلأت القاعة بالإعلاميين ومحبي قداسته .
إصطحبني الأستاذ جوزيف خوري صاحب و رئيس تحرير جريدة " المستقبل " كعادته في كل زيارة لقداسة البابا وحضرنا المؤتمر مع من حضر من الأعلاميين وأيضا من محبي قداسته من الشعب .
بدأ المؤتمر وبدأت معه الأسئلة من الزملاء لكني كنت في عالم أخر . عالم بعيد عن المؤتمر لكنه منحصر في قداسته . لا أعرف ما الذي أصابني من توتر ورهبة يشوبهما حزن وخوف وقلق .إنتابني إحساس غريب لا أساس له بالمنطق أنني لن أرى قداسته مرة أخرى . بمعنى أنها أخر مرة سأراه فيها .
لم أشارك في المؤتمر بأي أسئلة على الرغم من إعدادي قائمة من الأسئلة .
إنتهى المؤتمر وأخذ الحضور بالتوجه إلى قداسته للترحيب به . كل هذا وأنا جالس مكاني لا أستطيع النهوض والتوجه للترحيب به .
بدأت أرى أن الناس قد خرجت ولم يبقى في القاعة خير قداسته والدكتور مدحت جرجس وأنا . لم يتحرك قداسته ، لكن الدكتور مدحت توجه إلى الباب منتظرا قداسته
وضعت شفتاى فوق يده أقبلها . لكن القبلة طالت لحوالي 10 دقائق وهو واقف دون ملل أو ضجر .
بعد خروجنا من القاعة ذهب قداسته مع الدكتور مدحت ، وكان في إنتظاري الأستاذ جوزيف خوري لنتوجه إلى كاتدرائية مار مرقس بأرنكليف للقاء قداسته هناك .
بالفعل وصلنا إلى الكنيسة مع من وصل من الشعب في إنتظار مجيء قداسته . لكن التوتر مازال يسيطر علي وأعرف مدى شغف وحب جوزيف لقداسته . تأخر في الحضور . أو هكذا خُيل إلي . طلبت من جوزيف أن يأخذني إلى المنزل ويعود بعد ذلك إلى الكنيسة .
لم يسأل الرجل ولا شك قد لاحظ التوتر والقلق الباديان عليّ .
لم أعرف سببا لما كنت فيه غير أن كل منا لن يرى الأخر . لم أفكر في الموت . لكن كل ما أتذكره أن قداسته لن يستطيع المجيء إلينا في أستراليا لدواعي صحية ولبعد المسافة . وأنا أيضا لن أستطيع الذهاب إلى مصر لدواعي صحية . ومع شديد الأسف على الرغم من هذا الشعور الذي إنتابني لم أذهب لرؤيته ثانية في أي مكان ذهب إليه قداسته حتى القنصلية المصرية في سيدني .
كم هو جميل أن يترك الأنسان ذكرى عطرة يتذكره بها كل من عرفه ، كما فعل المطوب المتنيح مثلث الرحمات قداسة البابا شنوده الثالث .
** " شيء مخيف " إسم فيلم مصري تم إنتاجه عام 1969 من إخراج الأستاذ حسين كمال وعن قصة للكاتب المبدع ثروت أباظه بطولة محمود مرسي " عتريس " شادية " فؤاده " حافظ " محمد توفيق " والد فؤاده الذي أجبره الخوف على زواج إبنته بشهادة باطلة .
تدور أحداث الفيلم في إحدى القرى المصرية حيث يسيطر على الناس الخوف من عصابة عتريس الذي تولى مسؤلية العصابة والأستمرار في البطش بالناس البسطاء من أهل القرية .
نشأ عتريس في القرية بالطبع وكان طفلا وديعا وخاصة عندما يلتقي بالطفلة فؤاده التي تقاربه في السن . كبر الأثنان وعلى الرغم من إبتعاد فؤاده عن عتريس لعدم رضاها على ما يفعله تجاه أهل القرية .
أغلق عتريس وعصابته هويس الماء حتى لا يستطيع الفلاحين من ري أراضيهم لعدم قدرتهم على دفع الأتاوه التي يفرضها عليهم عتريس .
حاولت فؤاده تشجيع الفلاحين على التصدي لعتريس وفتح الهويس . لكن الجميع يخشى عاقبة العمل .
تذهب فؤاده إلى الهويس وتقوم بمفردها بفتح الهويس وتنساب المياه لري الأرض العطشى فجن جنون عتريس . لكنه لم يستطع توقيع العقاب على فؤاده .
لم يجد عتريس لحفظ ماء وجهه غير التقدم بالزواج من فؤاده والذي رفضته هي ولم تعطِ والدها وكالة الزواج مما إضطره للكذب وتم الزواج بشهادة شهود باطلة .
نهاية الفيلم المؤسفه جاءت عندما تصدى الشيخ ابراهيم " يحي شاهين " لموضوع زواج عتريس من فؤاده وتولى حملة تشهير ضد الزواج والذي هو باطل .
دفع ذلك الفعل عتريس الى قتل محمود بن الشيخ ابراهيم في ليلة زواجه .
خرجالشعب في القرية حاملين جسد محمود المقتول يتقدمهم الشيخ ابراهيم وهويهتف تلك الجملة الشهيرة " زواج عتريس من فؤاده باطل .. باطل .. " .
تأتي نهاية الفيلم بحرق منزل عتريس وهو بداخله مع خيانة من كانوا معه بإغلاقهم باب منزله من الخارج فيموت عتريس وسط النيران التي إلتهمت منزله .
العجيب أنني شاهدت الفيلم أول مرة في مصر . بعد ذلك عدة مرات في أستراليا عن طريق الفيديو ثم القنوات التلفزيونية وكانت أخر مرة شاهدته فيها يوم السبت 16 / 3 / 2013 .
تعليقي على الفيلم :
ما أشبه اليوم بالبارحة . ما حدث في تلك القرية والتي صورها الكاتب بهذه الصورة وكانت موضع نقاش حاد في ذلك الوقت حول الدكتاتورية التي ظهرت في أحداث الفيلم في صورة والد عتريس ثم عتريس " كلاهما قام بالدور محمود مرسي " وأعتبر البعض أن المقصود بالقصة كان جمال عبد الناصر. وقد يكون من إتجهو ذلك الأتجاه على حق ، مما حدى بعبد الناصر مشاهدة الفيلم مع أنور السادات بعدها نفى ذلك الرأي ولم يمنع عرض الفيلم .
شادية في دور الفلاحة فؤاده وما ترتديه من الزي الفلاحي القريب الشبه لزي الفلاحة في تمثال نهضة مصر . فهل كان المخرج يقصد بفؤاده تجسيد مصر الشجاعة ؟ هذا برأي وارد أيضا .
في بداية تعليقي قلت " ما أشبه اليوم بالبارحة " قصدت من وراءه ما تعانيه مصر من دكتاتورية الحاكم ومن معه هذه الأيام . فهل مصر مازالت فتية وتستطيع مقاومة الحاكم وجبروته مثلما واجهت فؤاده جبروت عتريس ؟ أم أنهكتها الأحداث وباتت غير قادرة على الصمود والتحدي وعلى وشك السقوط ؟
كذلك قتل عتريس الكثيرين من أبناء القرية " والده وهو " ولم يستطع أحد في القرية الوقوف في وجهه وتزوج من فؤاده التي رفضت إعطاء والدها توكيلا فكذب ... فهل تم إختيار الحاكم تحت ضغط وخوف من الشعب وعدم وجود من يستطيع الوقوف في وجه من أجلسوه على الكرسي ؟
أشياء كثيرة فيها التشابه والشبه حتى إسم البطل !! .
** أول مرة وأخر مرة كل منهما بدون شك يترك أثرا في قلب وفؤاد الأنسان . أول مرة قد تكون تجربة مريرة يمر بها الأنسان فيحاول أن يتعلم منها ويتجنبها . وأيضا قد تكون لها ذكرى عطرة فتستمر معه مدى الحياة حتى لو كانت في رؤيا . لذا يجب علينا من حين لحين العودة بذكراياتنا التي كانت أول مرة .
كذلك الوضع بالنسبة لأخر مرة . قد نلتقي بصديق أو زميل عمل أو دراسة مصادفة نتحدث عن الماضي إذا وقتنا سمح . أو يسأل كل منا عن الأخر في عجالة غير عابئين بأن هذا اللقاء ربما يكون أخر مرة نسمع بعده مهما طال الوقت بين اللقاء والخبر بفقدان أحدهما فنندم على عدم قضاء وقت أطول مع الفقيد في أخر لقاء تم بيننا .
كم هو صعب على الأنسان أن يشعر بمثل هذا الشعور تجاه من يحب .والأصعب منه أننا لا نعمل حساب أن تكون هذه المرة التي نلتقي بها مع الناس لربما تكون أخر مرة .
0 comments:
إرسال تعليق