القدس في عقيدتنا الدينية، وفي فهمنا السياسي، وثوابتنا الوطنية، وقواسمنا القومية المشتركة، وفي عرفنا وإرثنا الحضاري، مدينة عربيةٌ فلسطينيةٌ واحدةٌ غير قابلة للقسمة ولا للتجزئة، وهي ليست محلاً للتفاوض والتحاور والمساومة، وهي مدينةٌ لشعبٍ واحد، وعرقٍ واحد، وتنتمي لأمةٍ واحدة، تحيطها وتشملها وتتبعها تاريخاً وحضارة، إنها مدينة فلسطينية عربيةٌ خالصة لا شوائب فيها ولا كدرُ، ولا مكان فيها لغير أصحابها وملاكها من الفلسطينيين عرباً، مسلمين ومسيحيين، الذين ورثوها عن أجدادهم، وحافظوا عليها عبر عصورهم، وتمسكوا بها أمام النوائب والمحن، فهي تنتمي إلى أمتها العربية والإسلامية الخالدة، ولا تختلط فيها الإنتماءات الجديدة أو الوافدة، ولا تتداخل فيها الأصول والجذور لأنها أصلٌ لأصحاب الحق وحدهم، وملكٌ لهم ولأجيالهم من بعدهم، إنها آيةٌ خالدةٌ في كتاب ربنا، وصفحاتُ تاريخٍ ناصعة سجل أمتنا، وخرائط جغرافيا باقية في مناهج تعليمنا، نحفظ تاريخها، وسير رجالها، وأنساب عائلاتها، والمعارك والحروب التي دارت فيها ومن أجلها، وصحابة رسول الله والشهداء الذين دفنوا فيها، والأعلام الذين ولدوا ونشأوا فيها، ونعرف تضاريسها، جبالها وسهولها ووديانها وعيونها ومياهها الجارية، ونعرف طبقات قشرتها الأرضية، وأحوالها الجوية، وكل شئ فيها نحفظه وندونه ونسجله.
يظن الإسرائيليون وهم يحتفلون بالذكرى الرابعة والأربعين لاحتلال الشطر الشرقي من مدينة القدس، أنهم قد استعادوا يوم النكسة الشطر الآخر للمدينة، الذي تأخر التحاقه بالشطر الأول الذي احتلوه يوم النكبة قبل النكسة بتسعة عشر عاماً، فطردوا سكانها، وأقاموا في بيوتهم، وقتلوا أهلها ومثلوا بهم، وهدموا معالمها، وخربوا مساجدها ومدارسها، وهم يعتقدون أنهم قد استعادوا مدينتهم، وحققوا حلمهم، ونفذوا وعد الإله لهم، بالعودة إلى الأرض الموعودة، وباشروا ببناء هيكلهم المهدم بعد غربةٍ وتيهٍ وسبيٍ وضياعٍ وشتات امتد لآلاف السنين، ودأبوا عبر سني الاحتلال كلها في تغيير معالم المدينة، وشطب هويتها العربية والإسلامية، وتفريغها من أهلها وسكانها، والتضييق على من بقي منهم، فهدمت بيوتهم، وصادرت أرضهم، وحرمتهم من حقهم في الإقامة والعمل فيها، ولم يتأخر رئيس حكومةٍ إسرائيلية منذ تأسيس كيانهم، ولا أيٍ من عُمَدِها، ووزراء البنى التحتية فيها، عن خدمة الأحلام اليهودية في مدينة القدس.
يطوف المستوطنون والمتشددون الإسرائيليون، والحاخامات اليهودية، وطلاب المدارس الدينية، وكثيرٌ من المسؤولين السياسيين والأمنيين، ووزراء في الحكومة وضباط في الجيش الإسرائيلي، في ظل حراساتٍ مشددة من الشرطة والجيش، وهم يطلقون الصافرات، والأناشيد الدينية، والشعارات العنصرية، ضد العرب والمسلمين، منادين بطردهم من مدينة القدس، وتطهيرها منهم، وجعلها خالصةً لليهود، ولا يترددون عن شتم العرب والمسلمين، والإساءة إلى دينهم ورسولهم الكريم، بعباراتٍ نابيةٍ، وكلماتٍ جارحة، مبتهجين أنه اليوم وفق تقويمهم العبري الذي توحدت فيه مدينتهم، وعادت يهودية كما كانت، فلا ينبغي أن يسمح فيها بعد اليوم لغير اليهود أن يسكنوها، أو أن يقيموا فيها، فهذا وعد الرب لهم بأن تكون مدينتهم خالصة لهم وحدهم فلا يشاركهم فيها أحد، ولا يسكنها معهم أحد، ولسن حالهم يقول فلتحرق كل نفسٍ تفرط فيها، ولتقطع كل يدٍ تنساها، وليلعن كل من يساوم على حق اليهود فيها.
لهذا فإن استعادة القدس الفلسطينية العربية الموحدة وتحريرها من براثن الإحتلال الإسرائيلي، ليست مسؤولية الفلسطينيين وحدهم، وإن كان قدرهم أن يكونوا رأس حربة الأمة العربية والإسلامية في مواجهة الأخطبوط الإستيطاني الإسرائيلي، وطليعة الأمة المقاومة المدافعة عن حقوقها وثوابتها ومقدساتها، وقد أثبتوا في مواجهة العدو الإسرائيلي قوةً وثباتاً وقدرة على المواجهة والصمود والتحدي، ولكن مهما بلغ بأس الفلسطينيين وشدتهم في المقاومة والقتال، فإنهم يبقون في حاجةٍ ماسة إلى إخوانهم وأشقائهم العرب والمسلمين، ليشاطروهم العبء والمسؤولية، وليتحملوا معهم واجب المقاومة والدفاع عن مقدسات الأمة العربية والإسلامية، ولعل القدس ومسجدها الأقصى هي أقدس ما يعتقد به العرب والمسلمون، وأكثر ما يحرصون على الدفاع عنه، وحتى تكون مسؤولية استعادة القدس مسؤولية جماعية، ومهمة يضطلع بها العرب والمسلمون جميعاً، فستكون مسألة التفاوض عليها، وإمكانية تجزيئها أو تقسيمها أو تقديم تنازلاتٍ عن بعضها إلى الإسرائيليين، مسألة صعبة جداً، وأمرها منوط بالعرب والمسلمين، وليست المسألة خاصة بالفلسطينيين وحدهم، وإن كانوا هم أهل القضية، وسدنة الحرم، ولكن لا يحق لهم أن يفاوضوا الإسرائيليين أو غيرهم عن القدس، أو أن يتنازلوا عن جزءٍ منها، حتى وإن رأوا أن الظروف لا تحقق لهم أكثر من ذلك في أي مرحلة من الزمن، ولهذا فإن استعادة القدس العربية الموحدة، بشطريها الضائعين في حربي النكبة والنكسة، لا تتحقق بالتوسل والمفاوضات، وإنما يتطلب تحريرها قوةً ومقاومة، وقتالاً ومواجهة، بالقدر الذي استخدمه الأجداد في استعادتها دوماً وفي الحفاظ عليها، ومنع أي تغولٍ أو أو اعتداء عليها، فلا شئ يحمي القدس ومقدساتنا فيها سوى القوة، التي هي السياج الحامي والواقي والرادع، كما أنها لا تقبل القسمة ولا التجزئة، ولا تكون إلا واحدة موحدة، تحت السيادة العربية الفلسطينية.
نسي الإسرائيليون أننا نحتفل في كل يومٍ بمدينتا الموحدة، ونتمسك بها ما بقي الزمان، وكانت الأفلاك في مساراتها تسير، والشمس في سمائها تسطع، وآيات القرآن تقرأ وتتلى، والصلاة تقام والآذان يصدح، وأننا نحتفي بها كلها عاصمةً أبدية موحدة لدولتنا الفلسطينية، والتي سيأتي يومٌ فيه تعلن، وأننا لا ننساها مهما امتد الزمان، وتعقدت الظروف، وساءت الأحوال، وقوي العدو وتغطرس، وضعف أصحاب الحق وخارت قوتهم، ولن يطول الزمن الإسرائيلي، ولن يبقى الإحتلال فيها، ولن يعمروا فيها مهما طال الزمن، وغداً عنها سيرحلون، ومنها سيطردون، فهذه المدينة لنا، وهذه القدس مسرى نبينا، وهذا الأقصى أولى قبلتنا، فلا قيمة لنا إن كانت القدس بأيدي غيرنا، والمسرى مرهونٌ بأيدي أعدائنا، فلا تفريط بها، ولا تنازل عنها، ولا قبول بتقسيمها، ولا بحث عن حلولٍ لها، غير عودتها إلى ما كانت عليه من السيادة العربية والإسلامية.
0 comments:
إرسال تعليق