لم يحظَ النداء الصادر عن أمانة سر الجامعة العربية للمواطنين العرب بأهمية تليق بمفرداته. إهابة الجامعة العربية بنا للتصويت لكنيست إسرائيل تحمل من المعاني ما يستوجب وقفة وأكثر، لا سيمّا وأن الصوت كبّر من على منصة تمثل جميع الدول العربية التي ما زالت تعلن أنّها لا تؤيد التطبيع مع إسرائيل. ألا يحمل الموقف العربي المعلن تناقضًا أو يستوجب تساؤلًا أو يسترعي تنقيبًا ووقفة؟ كيف ولماذا صمتت أحزاب العرب وحركاتهم عن هذا؟ أيكفيها تبريرًا أن النداء يتساوق مع ما سعت إليه هذه الأحزاب والحركات، أيصحّ أن أكتب: إذا تقابلت المصالح، فكفٌك على المواقف.
أشغلتني هذه المسألة حين إعلانها. لم تكن المسألة الوحيدة التي لم أكتب عنها كي لا أزجّ في خانة الندّابات النقاقات، وكنا رفعنا صلوات الاستخارة واستمطار السماء والأرض لهبّة العرب نحو الصناديق. اليوم وبعد أن "نشّفت المي وبانت البلاعيط"، أعود إلى حيث توقّفت وأسأل ماذا بعد؟ هل حقًا كسبت مصلحة الجماهير العربية نقاطًا في هذه النتائج المحرَزة؟. يحق لمن يريد، أن يرفع رايات النصر ويهزج بأوفه وعتاباه، أمّا أنا فسأسجّل ما يلي.
أنا لا أعتبر أن المحافظة على قوة الأحزاب تعدّ نصرًا ولا تستدعي رضا من باب كونها أهون البلاء، كما يرشح من تصريحات بعض القادة والمسؤولين. العرب أضاعوا فرصة ثمينة وليس فقط بما كانوا قد يحصلون عليه من مقاعد، بل بتغييبهم خطابًا سياسيًا اجتماعيًا كان من شأنه أن يؤثّر على المجتمع اليهودي ويكون قوةً دافعة مساعدة لما أبدته بعض القوى اليهودية من خوف وحذر، كما تبين من تراجع في قوة اليمين بغلاته العنصريين وبعض جيوبه الفاشية الواضحة. هذه المقولة تلائم، تحديدًا، نشاط الجبهة الديمقراطية، التي سلكت سياسة توافقية في العديد من المسائل وقبلت شعارات حيّدت أهميتها وتميّزها كقوة مؤهلة للتأثير بين اليهود. "صوّتوا للأحزاب العربية" شعار أتاح قراءة مغلوطة بين الجماهير العربية من جهة وخلّف عجزًا وأجاز تناقضًا في فهمه بين اليهود. كيف تفسّر الجبهة نكوصها في الشارع اليهودي على الرغم من دورها في النشاطات الاحتجاجية الاجتماعية؟.
إلى ذلك، صمت الجميع عن شعار القائمة العربية الموحّدة "من لا يصوت للعربية يصوّت للصهيونية" أضرّ بالحملة الانتخابية بشكل عام وعرّى هشاشة وحدة عربية مدّعاة. فالشعار أخاف وخوّن المصوتين على الرغم من كونه شعارًا ديماغوغيًا مؤذيًا، وإذ سحب الشعار من إعلانات الموحّدة في الصحف إلّا انه بقي على كل قارعة طريق ومنعطف.
لقد ساد جو من القبلية وهيمنت نداءات النخوة البدائية الفطرية. "هيا للتصويت يا عرب" هكذا صدح الصوت والصدى. هذا فضاء مريض يحافظ على بدائية قبلية سادت في الماضي وستعود. فعندما تغيّب العلاقة الحزبية المدنية الحديثة ما بين التنظيم وجماهير الشعب تغلب وشائج وعلائق تتغذّى من منابع أخرى، كالطائفة والقبيلة والعائلة والبلدة والحي والمال. وإلّا كيف يفسّر قادة الجبهة مثلًا غياب دعم الجبهة في النقب على الرغم من ريادة الجبهة في كثير من النشاطات الكفاحية في قضايا الأرض والمسكن. هل يستطيع مخلص أن ينكر التزام سكرتير الجبهة أيمن عودة في قضية العراقيب وغيرها وهو الذي التحفَ أرض النقب وأصبح "نجم" محاكم الجنوب مُتهمًا دفع وما زال يدفع ثمن وقفته كالشمس.
كثيرون لم يصوّتوا عن استياء. يهمنّي ذلك البعض الذي رأى فرح الميادين وما بعثته بواكير ثورات ما زالت تتضرّج بدمائها. إنّهم مستاؤون لافتقادهم فضاءات تلك الديمقراطية في مطارحهم وأحزابهم، القيادات تغنت برياح التغيير وعندنا ركبتها نياقًا، على ظهورها حلٌقت وأناخت لتتصدر قوائمها الانتخابية. لم تسعف جميع القوائم العربية التبريرات التي سيقت لتبيح المحظورات. ما سوّقته قيادة الجبهة كحلّ معقول لتركيبة القائمة، ربمّا امتص بعضًا من غضب لكنّه لم يقنع كثيرين استصعبوا بقاء محمد بركة في الصدارة وتجاهل الدعوات لإشراك دماء جديدة وقيادات نسائية وشبابية.
من جهة أخرى، لا يخفى على أحد أن القائمة العربية الموحدة هي حركة طائفية وتجمّع لبعض الشخصيات ومخاتير ورؤساء عشائر وعائلات، وهي بذلك تركيبة محدّثة لأحزاب عربية تقليدية ليست من مواليد ميادين التحرير، هذا علاوة على وجود النائب الطيبي بين صفوفها وهو البرلماني المتميز ولهذا أضحى وجوده في هذه القائمة دلالة على انتهازية بدل أن يكون موئلًا وملاذًا لكثيرين يقدّرون نشاطه.
أمّا ولاء حزب "التجمع" لمؤسّسه وقائده التاريخي عزمي بشارة أبقى ويبقي تساؤلات كبيرة أحبطت حائرين أحيانًا وشكّكت غيورين في أحيان أخرى، إذ كيف يمكن تسويغ ديمقراطية حزب وثوريته وقائده يسكن في فيء خليفة وينشط من حضن إمارة تفعل ما تفعله في الشرق من أجل عيون نفط وسلطان.
نماذج من مسائل غيّبها "من كان أبصر شيئًا أو رأى عجبًا" وأعجز قائلًا: "فأنني عشت دهرًا ولا أرى عجبًا"، لكنّها كانت، ومسائل جوهرية أخرى، في صدور كثيرين وتحت وسائدهم شوكًا قض وما زال يقض نومهم ويعكر صفو صباحاتهم.
التهرب من مواجهة مسائل خطيرة ومصيرية سيهدم ما تبقى من ثقة، ولذلك أقول، وأعد بعودة لتفصيل ما غاب وما بَهم، كما قال ذلك الأعرابي: "الناس كالناس والأيام واحدة/ والدهر كالدهر والدنيا لمن غلبا" أو ربما لمن دفعَا ...
0 comments:
إرسال تعليق