من بعد تردد وتأخر وتخلف عن دول عالمثالثية أخرى، دشنت الصين في العاشر من أغسطس الجاري حاملة طائراتها الأولى، لتصبح بذلك خامس دولة آسيوية تملك مثل هذا السلاح، والدولة الحادية عشرة على مستوى العالم من بعد الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرازيل والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتايلاند.
فعلى صعيد الدول الآسيوية سبقت الهند الصين في إمتلاك بحريتها لحاملات الطائرات، وذلك حينما إشترت في عام 1994 حاملة الطائرات الروسية "أدميرال غوروشكوف" التي تزن 45.5 ألف طن، بمبلغ 1.6 بليون دولار، علما بأن البحرية الهندية بدأت منذ عام 2005 في بناء حاملة طائرات أخرى محلية التصنيع بالكامل بوزن يناهز 37.5 ألف طن. كما ان تايلاند سبقت الصين أيضا بإمتلاكها لحاملة طائرات إسبانية الصنع بدءا من عام 1997 ، علما بأنها صغيرة الحجم (لا يتجاوز وزنها 11.5 ألف طن، ولا يتسع سطحها لأكثر من 26 طائرة نصفها من المروحيات). أما اليابان، التي كانت رائدة في إمتلاك حاملات الطائرات الضخمة قبل هزيمتها في الحرب الكونية الثانية، فصارت بسبب القيود المفروضة عليها تتحاشى إستخدام إسم حاملة الطائرات في وصف سفنها الحربية الضخمة ذات التقنيات العالية والتي يمكنها أن تتحول إلى مهابط للطائرات المقاتلة والمروحيات عند الحاجة. وتملك كوريا الجنوبية حاملة طائرات مصنوعة محليا، وتزن 14 ألف طن، وبإمكانها حمل 700 عنصر مقاتل و12 مقاتلة حربية و10 مروحيات.
إن دخول الصين عصر إمتلاك حاملات الطائرات أثار الكثير من علامات الإستفهام في الأوساط العالمية ومراكز البحوث الإستراتيجية، إلى الدرجة التي دفعت واشنطون رسميا إلى طلب تفسير من بكين حول الحدث ومراميه. ذلك أن الكثيرين شبهوا تدشين حاملة الطائرات الصينية الأولى بتدشين الأمريكيين لحاملتهم الأولى "يوجين إيلاي" من حوض بناء السفن في برمنغهام في 14 نوفمبر 1910 ، مفترضين أن الحدث الصيني ربما كان مثل الحدث الإمريكي قبل قرن من الزمن لجهة بداية حقبة جديدة من الإستراتيجيات والعمليات الحربية في أعالي البحار. وبكلام آخر هل الخطوة الصينية هي البداية لمشروع صيني أكبر يكتمل في عام 2020 مثلا، ومفاده إستخدام القوة العسكرية في أعالي البحار لترجيح وتأمين المصالح السياسية والإقتصادية للصين مثلما فعلت واشنطون من قبل.
ورغم أن بكين قاومت جميع أشكال المبالغة في الإحتفال بتدشين حاملتها الأولى، بل حاولت إسدال قدر من الغموض على الحدث، إلى حد تجنبها إطلاق إسم معين على الحاملة، بل والإصرار على أن ما دشنته بحريتها ليس سوى سفينة أبحاث وتدريب، فإن المراقبين لم راحوا ينقبون عن غير المعلن. فإذا كان صحيحا أن الحاملة، التي تعود إلى الحقبة السوفياتية، وتم بناؤها في أوكرانيا، وتزن 67 ألف طن، وإشترتها بكين من موسكو في عام 1998، ثم أجرت عليها تعديلات وتجديدات كثيرة في ميناء "داليان"، مجرد سفينة أبحاث وتدريب، فإن الصحيح أيضا هو العملية بمجملها إستباق وتحضير لقيام الجيش الأحمر بتدشين حاملة طائرات صينية خالصة في عام 2014 ضمن ثلاث أخريات تعتزم بكين إلحاقها بسلاحها البحري المتعاظم، وبعضها مزودة بقدرات نووية.
وإذا كان صحيحا أن بكين تحاشت إطلاق إسم على الحاملة التي كانت عـُرفت في الحقبة السوفياتية بإسم "فارياغ"، فإن مصادر مقربة من جنرالات الجيش الأحمر سربت خبر إختيار " شي لانغ" كإسم للحاملة، وذلك تيمنا بالأدميرال "شي لانغ" المنحدر من سلالة "قينغ" التي حكمت الصين ما بين 1644 - 1911 . وإستنادا إلى ما عــُرف عن هذا العسكري من دعوات بالسيادة على تايوان، فقد قيل أن إطلاق إسمه على الحاملة متعمد ويستهدف إرسال رسالة إلى تايبيه مفادها أن أي عمل متهور بإعلان إستقلال تايوان سوف يواجه بالقوة العسكرية.
على أن خبيرا عسكريا أمريكيا هو الأدميرال المتقاعد "إيريك ماك فارون" له رأي آخر. إذ قال أن إطلاق إسم "شي لانغ"، رغم حساسيته، ليس فيه إيحاءات بالتهديد لتايوان، مضيفا أن حاملة الطائرات غير ضرورية لسينايوهات غزو تايوان، لأن لدى بكين أعداد هائلة من المقاتلات التي يمكن تحريكها بسهولة من البر الصيني عبر مضيق تايوان في عمليات قصف خاطفة وسريعة. كما أن الخبير العسكري الإمريكي أثار نقطة هامة كانت مجلة "وايرد" قد طرحتها من قبل في عددها الصادر في يونيو الماضي، وهي أن نقطة الضعف الرئيسية في الحاملة الصينية "موجودة تحت جلدها" وتتمثل في محركاتها الأوكرانية الصنع من تلك التي أثبتت فشلا ذريعا في تحقيق السرعة المطلوبة، بدليل ما حدث لحاملة الطائرات "كوزنتسوف" الروسية المطابقة للحاملة "فارياغ" تصميما ومضمونا.
في أسباب لجؤ بكين إلى هذه الخطوة من بعد تأخر وتلكؤ، تباينت آراء المحللين. فمن قائل أن بكين تسعى إلى فرض هيمنتها في بحر الصين الجنوبي، ومياه المحيط الهندي حيث التنافس على أشده بين بكين من جهة وقوى إقليمية كالهند واليابان وكوريا الجنوبية من جهة أخرى، إلى قائل بأن للأمر علاقة بردع كل من يستهدف الصين أو يقلل من شأنها أو يحاول فرض الأمر الواقع عليها، إلى قائل بأن الخطوة ليست سوى محاولة لرفع معنويات سلاح البحرية في الجيش الأحمر والذي هــُمـّـش طويلا لصالح سلاحي الجو والبر، هذا ناهيك عمن قالوا بأن الخطوة تستهدف الإيحاء لمن يعنيه الأمر بأن البحرية الصينية تواكب التطورات العالمية لجهة عمليات حراسة السفن التجارية في أعالي البحار، ومحاربة القرصنة والإرهاب، والمساهمة في عمليات الإنقاذ والإغاثة والإجلاء وتقديم الخدمات الإنسانية. أي أن الصين تتحمل مسئولياتها كدولة عظمى دائمة العضوية في مجلس الأمن.
وبطبيعة الحال، كان هناك من قال بأن المسألة تتعلق بالتنافس الإمريكي – الصيني، وهو ما إستسخفه "إيريك ماك فارون"، قائلا أن البون شاسع جدا في ما خص القدرات القتالية البحرية، ليس بين الصين والولايات المتحدة فقط، وإنما بين الأخيرة وكل دول العالم مجتمعة، فالولايات المتحدة تمتلك مثلا 20 حاملة للطائرات، بينما دول العالم الأخرى مجتمعة تملك 10 منها فقط ، ناهيك عن أن الحاملات الإمريكية أكبر حجما وأكثر تقدما في تقنياتها. ويكفي في سياق المقارنة أن نوضح أن المساحة الإجمالية لأسطح الحاملات الإمريكية العشرين تبلغ 280 ألف متر مربع، بينما هي في الحاملات الأجنبية الأخرى كلها لا تزيد عن 60 ألف متر مربع.
ويجزم الأدميرال "ماك فارون" بأن الصينيين على قدر من الذكاء الذي يجعلهم يتعاطون بواقعية مع قدرات القوى الأخرى، مضيفا أن الأرجح هو تعاون حاملات الطائرات الصينية والإمريكية مع بعضها البعض من أجل تحقيق الأهداف المشتركة، وليس تنافسهما.
وفي قول مشابه، يؤكد "يوشي يوشيهارا" الأستاذ المشارك في معهد السياسات الإستراتيجية التابع للكلية البحرية في "رود آيلاند" بأن الصينيين واقعيون، وبالتالي فإن إستثماراتهم في السلاح البحري ستكون معتدلة وحذرة بحيث لا تقودهم إلى سباق تسلح مكلف يؤدي في نهاية المطاف إلى الإفلاس والإنهيار مثلما حدث للإتحاد السوفيتي.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة: أغسطس 2011
الإيميل:elmadani@batelco.com.bh
0 comments:
إرسال تعليق