هل يعيش الإعلام اللبناني انتكاسة أخلاقية وحضارية؟/ بطرس عنداري

كان‮ ‬من‮ ‬المفترض‮ ‬ان‮ ‬اكتب‮ ‬عن‮ ‬حالة‮ ‬الإعلام‮ ‬العربي‮ ‬عامة‮ ‬وليس‮ ‬عن‮ ‬الإعلام‮ ‬اللبناني‮ ‬فقط‮.. ‬ولكن‮ ‬انعدام‮ ‬الحرية‮ ‬الكاملة‮ ‬في‮ ‬جميع‮ ‬البلدان‮ ‬العربية‮ ‬مع‮ ‬استثناءات‮ ‬محدودة‮ ‬وقليلة،‮ ‬فرض‮ ‬الكتابة‮ ‬عن‮ ‬الإعلام‮ ‬اللبناني‮ ‬مكتوباً‮ ‬ومقرؤاً‮ ‬بعد‮ ‬ان‮ ‬اصبحت‮ ‬الساحة‮ ‬الاعلامية‮ ‬في‮ ‬لبنان‮ ‬سوقاً‮ ‬مزدحمة‮ ‬بالمزايدين‮ ‬والشتّامين‮ ‬مما‮ ‬أجبر‮ ‬نسبةً‮ ‬محترمة‮ ‬من‮ ‬الرأي‮ ‬العام‮ ‬على‮ ‬الابتعاد‮ ‬عن‮ ‬قراءة‮ ‬الصحف‮ ‬ومشاهدة‮ ‬برامج‮ ‬الشتم‮ ‬واطلاق‮ ‬الكلام‮ ‬البذيء‮ ‬الذي‮ ‬تُعاقِب‮ ‬عليه‮ ‬قوانين‮ ‬الدول‮ ‬المتحضرة‮.‬
ان‮ ‬الصحافة‮ ‬اللبنانية‮ ‬صاحبة‮ ‬تاريخ‮ ‬مجيد‮ ‬انطلق‮ ‬قبل‮ ‬قرن‮ ‬ونصف‮ ‬مع‮ ‬كوكبة‮ ‬من‮ ‬عمالقة‮ ‬الفكر‮ ‬والعطاء‮. ‬انطلق‮ ‬مع‮ ‬خليل‮ ‬الخوري،‮ ‬خليل‮ ‬سركيس،‮ ‬الشهداء‮ ‬سعيد‮ ‬عقل‮ ‬والاخوين‮ ‬الخازن،‮ ‬الى‮ ‬جبران‮ ‬تويني‮ ‬الاول،‮ ‬اسكندر‮ ‬رياشي،‮ ‬يوسف‮ ‬ابراهيم‮ ‬يزبك‮ ‬ومحي‮ ‬الدين‮ ‬النصولي،‮ ‬وصولاً‮ ‬الى‮ ‬عصر‮ ‬كامل‮ ‬مروة،‮ ‬سعيد‮ ‬فريحة،‮ ‬سليم‮ ‬اللوزي،‮ ‬غسان‮ ‬تويني‮ ‬والكثيرين‮ ‬غيرهم،‮ ‬دون‮ ‬ان‮ ‬ننسى‮ ‬المساهمين‮ ‬الرئيسيين‮ ‬في‮ ‬بناء‮ ‬صحافة‮ ‬مصر‮ ‬من‮ ‬اللبنانيين‮ ‬مثل‮ ‬الاخوين‮ ‬تقلا،‮ ‬انطون‮ ‬الجميل،‮ ‬فرح‮ ‬انطون،‮ ‬الشميّل،‮ ‬صرّوف،‮ ‬زيدان‮ ‬والآخرين‮.‬
من‮ ‬يصدّق‮ ‬ان‮ ‬لبنان‮ ‬الذي‮ ‬كان‮ ‬منبر‮ ‬الحرية‮ ‬الوحيد‮ ‬في‮ ‬العالم‮ ‬العربي‮ ‬حيث‮ ‬كان‮ ‬معظم‮ ‬الملوك‮ ‬والرؤساء‮ ‬العرب‮ ‬ينتظرون‮ ‬بتلهّف‮ ‬وصول‮ ‬صحف‮ ‬بيروت‮ ‬كل‮ ‬يوم‮ ‬للاطلاع‮ ‬على‮ ‬آراء‮ ‬كتّابها‮ ‬ومحتوياتها؟‮ ‬من‮ ‬يصدق‮ ‬ان‮ ‬هذا‮ ‬المنبر‮ ‬الوحيد‮ ‬سيطرت‮ ‬عليه‮ ‬مجموعة‮ ‬من‮ ‬كتّاب‮ ‬الاجرة‮ ‬ليصحّ‮ ‬قول‮ ‬البعض‮ ‬قببل‮ ٠٤ ‬عاماً‮ ‬عن‮ ‬النفط‮ ‬العربي‮ ‬انه‮ ‬نقمة‮ ‬ولعنة‮ ‬وليس‮ ‬نعمة‮.‬
نقول‮ ‬هذا‮ ‬الكلام‮ ‬مع‮ ‬شعور‮ ‬عميق‮ ‬بالألم‮ ‬ومع‮ ‬احترام‮ ‬كامل‮ ‬لقلة‮ ‬من‮ ‬الكتّاب‮ ‬حافظت‮ ‬على‮ ‬الرصانة‮ ‬واحترام‮ ‬النفس‮. ‬ولكن‮ ‬ما‮ ‬نقرأه‮ ‬ونراه‮ ‬نكاد‮ ‬لا‮ ‬نصدقه‮ ‬ونصدق‮ ‬العيون‮ ‬والآذان‮ ‬التي‮ ‬ترى‮ ‬وتسمع‮... ‬أمامي‮ ‬مجموعة‮ ‬من‮ ‬مئات‮ ‬المقالات‮ ‬المنشورة‮ ‬في‮ ‬أبرز‮ ‬الصحف‮ ‬والمجلات‮ ‬اللبنانية‮ ‬التي‮ ‬يخجل‮ ‬الانسان‮ ‬من‮ ‬قراءتها،‮ ‬وبعض‮ ‬هذه‮ ‬المواد‮ ‬نشر‮ ‬على‮ ‬الصفحات‮ ‬الأولى‮.‬
لقد‮ ‬باتت‮ ‬عبارة‮ »‬كتّاب‮ ‬الاجرة‮« ‬متداولة‮ ‬في‮ ‬لبنان‮ ‬مثل‮ ‬سيارات‮ ‬الاجرة‮ ‬وعربات‮ ‬الاجرة‮ ‬وغيرها‮ ‬من‮ ‬آلات‮ ‬واصحاب‮ ‬خدمات‮ ‬متوفرة‮ ‬مقابل‮ ‬مبالغ‮ ‬مالية‮. ‬في‮ ‬العام‮ ‬الماضي‮ ‬دلّني‮ ‬صديق‮ ‬صحافي‮ ‬على‮ ‬فيلا‮ ‬فخمة‮ ‬في‮ ‬بلدة‮ ‬جبلية‮ ‬بلغت‮ ‬كلفتها‮ ‬أكثر‮ ‬من‮ ‬مليون‮ ‬دولار‮ ‬صاحبها‮ ‬صحافي‮ ‬معروف‮ ‬كان‮ ‬يعمل‮ ‬الى‮ ‬جانب‮ ‬صديقي‮ ‬في‮ ‬صحيفة‮ ‬واحدة‮ ‬حتى‮ ‬العام‮ ٥٠٠٢ ‬براتب‮ ‬شهري‮ ‬لم‮ ‬يتجاوز‮ ‬الخمسمائة‮ ‬دولار‮.‬
أعلم‮ ‬اني‮ ‬أورّط‮ ‬نفسي‮ ‬في‮ ‬كلامي‮ ‬هذا‮ ‬لاني‮ ‬محسوب‮ ‬على‮ ‬الحقل‮ ‬الاعلامي‮. ‬ولكني‮ ‬أرى‮ ‬وأسمع‮ ‬شيئا‮ ‬شاذاً‮ ‬لا‮ ‬أقدر‮ ‬ان‮ ‬اسكت‮ ‬عنه،‮ ‬مع‮ ‬الاعتراف‮ ‬والمعرفة‮ ‬ان‮ ‬الصحافة‮ ‬اللبنانية‮ ‬والصحافة‮ ‬العربية‮ ‬بأجمعها‮ ‬غير‮ ‬قادرة‮ ‬على‮ ‬تمويل‮ ‬نفسها‮ ‬وهذه‮ ‬الواقعة‮ ‬عمرها‮ ‬أكثر‮ ‬من‮ ‬نصف‮ ‬قرن‮ ‬ولكن‮ ‬الحالة‮ ‬لم‮ ‬تصل‮ ‬الى‮ ‬ما‮ ‬وصلت‮ ‬اليه‮ ‬من‮ ‬إسفاف‮ ‬وعيوب‮.‬
لا‮ ‬يجوز‮ ‬ان‮ ‬يمر‮ ‬هذا‮ ‬الكلام‮ ‬الذي‮ ‬يحكي‮ ‬صورة‮ ‬واقع‮ ‬أليم‮ ‬دون‮ ‬تحية‮ ‬تقدير‮ ‬الى‮ ‬أساتذة‮ ‬الكلمة‮ ‬الذين‮ ‬لم‮ ‬ولن‮ ‬تطالهم‮ ‬الشبهات‮ ‬مثل‮ ‬طلال‮ ‬سلمان،‮ ‬ادمون‮ ‬صعب،‮ ‬سركيس‮ ‬نعوم،‮ ‬فؤاد‮ ‬دعبول،‮ ‬رفيق‮ ‬خوري،‮ ‬جهاد‮ ‬الزين،‮ ‬جورج‮ ‬بشير،‮ ‬نصري‮ ‬الصايغ‮ ‬وقلة‮ ‬معهم‮ ‬لها‮ ‬قدسيتها‮ ‬وكرامتها‮ ‬التي‮ ‬لا‮ ‬تنزل‮ ‬الى‮ ‬مستوى‮ ‬الإسفاف‮ ‬والشتيمة‮.‬
ان‮ ‬الاكثرية‮ ‬تكاد‮ ‬تطيح‮ ‬بمنابر‮ ‬الحرية‮ ‬والفكر‮ ‬بعد‮ ‬ان‮ ‬تحول‮ ‬عدد‮ ‬كبير‮ ‬من‮ ‬الإعلاميين‮ ‬الى‮ ‬ما‮ ‬يشبه‮ ‬قادة‮ ‬شرسين‮ ‬يرفضون‮ ‬الآخر،‮ ‬والاسوأ‮ ‬من‮ ‬هذا‮ ‬هو‮ ‬ان‮ ‬هذه‮ ‬المجموعة‮ ‬تجد‮ ‬من‮ ‬ينشر‮ ‬لها‮ ‬بل‮ ‬يغدق‮ ‬عليها‮ ‬المال‮ ‬لتقول‮ ‬ما‮ ‬تقوله‮ ‬وتكتب‮ ‬ما‮ ‬تكتبه‮ ‬من‮ ‬السباب‮ ‬والكلام‮ ‬العشوائي‮ ‬الذي‮ ‬يأتينا‮ ‬في‮ ‬مسلسلات‮ ‬من‮ ‬عشرات‮ ‬الصفحات‮ ‬احياناً‮.‬
وقد‮ ‬دخل‮ ‬اعلام‮ ‬الشتيمة‮ ‬الى‮ ‬المنازل‮ ‬رغماً‮ ‬عن‮ ‬اصحابها‮ ‬مع‮ ‬تطور‮ ‬الفضائيات‮ ‬وانتشارها‮. ‬في‮ ‬البدايات‮ ‬كان‮ ‬مقدّمو‮ ‬البرامج‮ ‬يحاولون‮ ‬السيطرة‮ ‬على‮ ‬برامج‮ ‬الحوار‮ ‬التي‮ ‬يشارك‮ ‬فيها‮ ‬اكثر‮ ‬من‮ ‬طرف،‮ ‬وعند‮ ‬احتدام‮ ‬السجال‮ ‬كان‮ ‬المقدّم‮ ‬يحوّل‮ ‬الكاميرا‮ ‬ويقطع‮ ‬البرنامج‮ ‬لتهدئة‮ ‬الوضع‮ ‬ثم‮ ‬يعود‮ ‬الى‮ ‬ساحة‮ ‬المعركة‮. ‬وقد‮ ‬تغير‮ ‬هذا‮ ‬الواقع‮ ‬حالياً‮ ‬حيث‮ ‬بات‮ ‬مقدّمو‮ ‬البرامج‮ ‬يتركون‮ »‬زبائنهم‮« ‬من‮ ‬سياسيين‮ ‬وإعلاميين‮ ‬يتبادلون‮ ‬الشتائم‮ ‬ويشهّرون‮ ‬بالأمهات‮ ‬والشقيقات‮ ‬بعبارات‮ ‬من‮ »‬الزنار‮ ‬ونازل‮« ‬مما‮ ‬يثير‮ ‬الاشمئزاز‮ ‬ويحمل‮ ‬الكثيرين‮ ‬على‮ ‬مقاطعة‮ ‬الشاشة‮ ‬الصغيرة‮ ‬والابتعاد‮ ‬عنها‮ ‬باتجاه‮ ‬برامج‮ ‬غير‮ ‬عربية‮.. ‬وربما‮ ‬هذا‮ ‬الواقع‮ ‬دفع‮ ‬الكثيرين‮ ‬الى‮ ‬الإدمان‮ ‬على‮ ‬المسلسلات‮ ‬التركية‮ ‬بعد‮ ‬غياب‮ ‬المكسيكية‮.‬
في‮ ‬البداية‮ ‬ظن‮ ‬الكثيرون‮ ‬ان‮ ‬هذه‮ ‬الشراسة‮ ‬الإعلامية‮ ‬في‮ ‬لبنان‮ ‬ليست‮ ‬اكثر‮ ‬من‮ ‬مرحلة‮ ‬جاءت‮ ‬بعد‮ ‬سنوات‮ ‬طويلة‮ ‬من‮ ‬الكبت‮ ‬والهيمنة‮. ‬ان‮ ‬هذه‮ ‬النظرية‮ ‬خاطئة‮ ‬لان‮ ‬لبنان‮ ‬الذي‮ ‬شهدحرباً‮ ‬أهلية‮ ‬دامت‮ ‬لاكثر‮ ‬من‮ ٥١ ‬عاماً‮ ‬غابت‮ ‬خلالها‮ ‬سلطة‮ ‬الدولة‮ ‬وجيشها‮ ‬وأمنها،‮ ‬ولكن‮ ‬الصحافة‮ ‬اللبنانية‮ ‬حافظت‮ ‬على‮ ‬احترام‮ ‬الذات‮ ‬وحفظ‮ ‬الكرامة‮ ‬رغم‮ ‬حدّة‮ ‬الحرب‮ ‬ووحشيتها‮ ‬ورغم‮ ‬الاموال‮ ‬التي‮ ‬كانت‮ ‬تتدفق‮ ‬على‮ ‬الصحافة‮ ‬وأهلها‮.‬
اننا‮ ‬نعارض‮ ‬الذين‮ ‬يقولون‮ ‬اننا‮ ‬لا‮ ‬نستحق‮ ‬الحرية‮ ‬الكاملة،‮ ‬ونعارض‮ ‬الذين‮ ‬يتمنون‮ ‬وجود‮ ‬رقابة‮ ‬لان‮ ‬صحافة‮ ‬لبنان‮ ‬لها‮ ‬تاريخ‮ ‬مجيد‮ ‬ومشرف‮ ‬وتمكنت‮ ‬دائماً‮ ‬من‮ ‬تجاوز‮ ‬الصعوبات‮.. ‬في‮ ‬العام‮ ٣٧٩١ ‬احتدمت‮ ‬معركة‮ ‬كلامية‮ ‬بين‮ ‬المرحومين‮ ‬سعيد‮ ‬فريحة‮ ‬وسليم‮ ‬اللوزي‮ ‬الذي‮ ‬كتب‮ ‬تحقيقاً‮ ‬في‮ ‬مجلة‮ ‬الحوادث‮ ‬قال‮ ‬فيه‮ ‬انه‮ ‬قابل‮ ‬جمال‮ ‬عبد‮ ‬الناصر‮ ‬بحضور‮ ‬سعيد‮ ‬فريحة‮ ‬الذي‮ ‬تسلم‮ ‬هدية‮ ‬مالية‮ ‬من‮ ‬الزعيم‮ ‬المصري‮ ‬بحضور‮ ‬اللوزي‮... ‬جاء‮ ‬رد‮ ‬سعيد‮ ‬فريحة‮ ‬صاعقاً‮ ‬في‮ ‬افتتاحية‮ ‬صحيفة‮ ‬الانوار‮ ‬بعنوان‮ »‬أسكتوا‮ ‬هذا‮ ‬الجعاري‮«.. ‬ولكن‮ ‬المعركة‮ ‬توقفت‮ ‬كلياً‮ ‬عند‮ ‬هذا‮ ‬الحد‮ ‬بعد‮ ‬تدخل‮ ‬المرحوم‮ ‬رياض‮ ‬طه‮ ‬نقيب‮ ‬الصحافة‮.‬
فمتى‮ ‬تتوقف‮ ‬او‮ ‬تنتهي‮ ‬أساليب‮ ‬الشتم‮ ‬والإسفاف‮ ‬في‮ ‬صحافتنا‮ ‬وإعلامنا؟‮!.. ‬وعذراً‮ ‬على‮ ‬هذا‮ ‬الكلام‮ ‬الصادر‮ ‬مع‮ ‬ألم‮ ‬قد‮ ‬يعقبه‮ ‬ندم‮.‬

CONVERSATION

0 comments: