قد لا يروق لألمانيا أن تتبع دوماً السياسة الأمريكية تجاه أطراف الصراع في الشرق الأوسط، فهي تتوق لأن تكون لها سياستها الخاصة، المنطلقة من المصالح الأوروبية القريبة من المصالح العربية، والمنسجمة مع الماضي والتاريخ العميق الذي صنعته ونسجته علاقات ومصالح عربية وإسلامية بين العرب والمسلمين وبين الغرب الأوروبي المسيحي القديم.
تحاول الحكومة الألمانية الابتعاد قدر المستطاع عن فلك السياسة الأمريكية والبريطانية تجاه القضية الفلسطينية، وترى أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية سياسةٌ توريطية خاطئة، أضرت بمسار السلام، وأنها تسببت في تأخيره وعرقلته، وأنها لم تكن يوماً عامل تفاهمٍ ووساطة بين الأطراف المتنازعة، وهي تتحمل مسؤولية كبيرة تجاه تعميق الأزمة بين أطراف الصراع، في الوقت الذي تستطيع فيه منذ سنواتٍ طويلة أن تضع حداً له، أو أن تقترح حلولاً ناجعة ومرضية لكل الأطراف، ولكن سياستها المنحازة أدت إلى إشراك وتوريط مختلف الدول الأوروبية ومنها ألمانيا في سياسة أقل ما توصف بأنها سياسة غير نظيفة وغير نزيهة، وأنها تعتمد الكيل بمكيالين، وتتناقض مع معايير العدل والإنصاف والحقوق والمبادئ التي تقوم عليها مختلف الشرائع الدولية، في الوقت الذي تؤكد فيه الإدارة الأمريكية أنها غير راضية عن الدور الألماني ولا عن الدور الأوروبي المتمثل في الإتحاد الأوروبي، وتخشى من أن تقوم دول أوروبا بممارسة ضغط على الحكومة الإسرائيلية، علماً أن هذه الخشية وهمية وغير صحيحة.
تؤمن ألمانيا بدولةٍ فلسطينية مستقلة ذات سيادة، وترى وجوب التوصل إلى هذا الهدف عبر حواراتٍ ولقاءاتٍ لا تجمع الفلسطينيين والإسرائيليين وحدهم فقط، بل يجب على المجتمع الدولي أن يعقد مؤتمراً للسلام في الشرق الأوسط، يشارك فيه أطرافٌ دوليون وإقليميون فاعلون، يلزمون فيه الأطراف بوضع حدٍ لهذه المشكلة التي استعصت على الحل، وشغلت العالم كله بها، وتسببت في تولد بؤر توتر كثيرة وعديدة في أكثر من مكانٍ في العالم، فكانت باستعصائها وتعقدها وتصلب أطرافها أم المشاكل الدولية، والمسؤولة عن كثيرٍ من السياسات العالمية، والموجه الأهم لمؤشراتٍ سلبية اقتصادية وأمنية واجتماعية وسياسية مختلفة.
لا يخفى الألمان حكومة وشعباً إيمانهم بضرورة أن تعترف إسرائيل بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، إذ أنه يستحق كأي شعبٍ آخر أن يكون له كيانه المستقل، ودولته الخاصة به ذات السيادة، وترى أن على الدولة العبرية أن تخضع للقوانين الدولية، وأن تستجيب لإرادة المجتمع الدولي، وتحذر بكلماتٍ خافتة، وحديثٍ هامسٍ في اجتماعاتٍ مغلقة ولقاءاتٍ خاصة، أن المجتمع الدولي لن يبقى جامداً على حاله، مستقراً على سياساته، فقد تطرأ مستجدات ومتغيرات تجبر الأطراف الدولية الفاعلة على فرض أصول جديدة لتوازناتٍ أخرى، قد تطرحها التطورات المستقبلية والتغيرات الدولية المتسارعة، خاصةً في ظل التطورات والثورات التي يشهدها العالم العربي ضمن ما يسمى بالربيع العربي، وأن صبر المجتمع الدولي قد ينفذ تجاه الأزمة الأكبر في الشرق الأوسط.
وهي أزمة لا تعاني منها الحكومات الغربية فقط، وإنما يعاني منها المواطن الأوروبي الذي لا يعجبه أن ينظر إليهم العرب والمسلمون على أنهم يشاركون حكوماتهم مواقفهم السياسية، وأنهم يؤيدون سياساتهم تجاه القضية الفلسطينية المجافية لحقوقهم والمساندة لسياسات الكيان الصهيوني, وعليه فقد بدأت ألمانيا تتبنى سياسة أكثر توازناً وحيادية في الصراع العربي الإسرائيلي، تقوم على قاعدة معادلة أخلاقية جديدة، تعتمد على المزج بين العامل الأخلاقي والسياسة الواقعية، فهي من جانب تقوم على حماية أمن إسرائيل، وتدافع عن حقها في الوجود من جهة، ومن جانبٍ آخر تنادي بالاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.
تدرك الحكومة والنخبة الشعبية الألمانية أن إسرائيل غير مستعدة للسلام، وأنها تماطل وتنافق، وأنها تعتدي وتظلم، وأنها تستفز وتقتل، وأنها تبادر وتهاجم، في الوقت الذي تدعي فيه أنها مظلومة، وأن العرب والفلسطينيين يعتدون عليها، ويهددونها في أمنها وسلامتها.
وتدرك ألمانيا أن الحكومات الإسرائيلية تبتزها وتستغلها، وتحاول أن تلزمها بالتكفيرِ عن أخطاءٍ تاريخية، وتحملها المسؤولية الكاملة عن حماية مستقبلهم، وضمان أمنهم وسلامتهم، وتكلف المواطن الألماني الكثير من أمواله الخاصة ومن حقه في الرفاهية لضمان توفير مساعداتٍ مالية وأخرى عسكرية للكيان الإسرائيلي، في الوقت الذي ترى فيه أن جزءاً كبيراً من مساعداتها ونفقاتها على الحكومة الإسرائيلية يذهب في تسليح الجيش الإسرائيلي، الذي يقوم بالاعتداء على المواطنين الفلسطينيين ويقتلهم، فقد ثبت لديها أن الجيش الإسرائيلي يستخدم الكثير من المعدات والآليات العسكرية الألمانية في الاعتداء على الشعب الفلسطيني.
ولا يخفي الألمان استياءهم الشديد من السياسة التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية في هدم وقصف وتدمير المؤسسات والمشاريع والبنى التحتية التي ساهم الإتحاد الأوروبي في بنائها وتأسيسها، وساهم دافع الضريبة الألماني والأوروبي في كثيرٍ منها، وأنفق عليها الكثير من الأموال، وصرف فيها الكثير من الوقت، وأشرف بنفسه على بنائها، وشارك أحياناً في تشغيلها، وهي مشاريع كثيرة جداً تطال جوانب كثيرة من المجتمع الفلسطيني، منها مشاريع صغيرة وبسيطة تتعلق بالمواطن الفلسطيني، ومنها مشاريع ضخمة وكبيرة تتعلق بالاقتصاد الفلسطيني وبالنبى التحتية للسلطة الفلسطينية، وأخرى لها علاقة بالتدريب والتأهيل والتطوير والتعليم، إذ أن ألمانيا تعتبر ثالث أهم شريك أوروبي في دعم مؤسسات السلطة الفلسطينية، ولعلها الدولة الأوروبية الأولى المانحة، وهي تمارس دوراً كبيراً مع دول الإتحاد الأوروبي للمساهمة أكثر في بناء المزيد من المؤسسات الفلسطينية المستقلة التي قد تساهم في تشكيل الكيان السياسي الجديد للسلطة الفلسطينية.
وتبدي الحكومة الألمانية وقطاعٌ كبير من الشعب الألماني غضبهم الشديد من قيام الحكومة الإسرائيلية بإجراءاتٍ عقابية شاملة وجماعية ضد الشعب الفلسطيني، ويزعجها قيام الحكومة الإسرائيلية باحتجاز أموال الضرائب العائدة للسلطة الفلسطينية، في الوقت الذي لا ترضى فيه عن وقف إمداد مناطق السلطة الفلسطينية عموماً وقطاع غزة على وجه الخصوص بالكهرباء وبوقود محطات توليد الكهرباء، الذي يعتبر عماد الحياة الأساسي بالنسبة للفلسطينيين، في الوقت الذي تلتزم فيه وحدها أو بالتعاون مع دول الإتحاد الأوروبي تجاه الحكومة الإسرائيلية بدفع نفقات وتكاليف تزويد المناطق الفلسطينية بالوقود والكهرباء.
يتبع 2/3 ...
0 comments:
إرسال تعليق