من كتاب أفكار وتأمُّلات من تُراب للأب يوسف جزراوي.... قريبًا بعون الرب.
في سفرة سريعة الى مدينة فرانكفورت الالمانية الجميلة بمحطتها المشهورة وكنائسها العتيقة وبعض ابنيتها القديمة التي حافظ الالمان عليها رغم الحرب الطاحنة.
في مقهي مجاور للمحطة كنت على موعدٍ مع صديقٍ لم اره منذ سنوات، التقينا ورحنا نقلب دفاتر السنين بحلوها ومرها، تارة نضحك وتارة اخرى نتحسر على ايامنا البغدادية الجميلة التي ذهبت بلا رجعة!
طلبتُ منه ان يقودني إلى بيت الشاعر الالماني الإنساني غوته. وافق الرجل على مضض لانه بعد ساعات يجب ان يتركني ليلتحق بعملهِ.
غوته بالنسبة إلى الألمان كشسبير بالنسبة إلى الأنكليز، ولكن يبقى غوته احب الشخصيات الأدبية إلى قلبي..... ونحن في الطريق الى المتحف لم اعد ارى السيارات المارة امامي، وأنما مرت أمام عيني رواية (الآم فرتر)؛ ونقلتني ذاكرتي إلى أيام تنشئتي الكهنوتية في المعهد الكهنوتي البطريركي ببغداد، إذ قرأت له روايته الرومانسية الحزينة (آلام فرتر)؛ كانت دموعي تهطل، وحزن يراودني كلما تعمقت في قراءة الرواية، فقد تأثرت بها جدًا. فلم تكن الام فرتر سوى الام غوته نفسه!
اضعنا الطريق بسبب الـ navigation ، كنتُ سارحًا في تذكر احداث الرواية، قاطع صديقي مسلسل ذكرياتي، عندما قال: يا أبانا يوسف، تركت كل معالم فرانكفورت لتذهب إلى زيارة بيت غوته الذي اصبح الان حفنة تُراب؟ ومن هو غوته؟!
ضحكت والغصة في قلبي.... ثم قلت له غوته لا يموت، وأضفت: ألا يحلو لك احيانًا أن تذهب الى اماكن حبّك الأول؟ اجاب نعم، ولكن في بغداد وليس في فرانكفورت!
قلت له: وغوته حُبي الأدبي الأول، رواية ( الام فرتر) هي أول رواية كنتُ قد قرأتها ايام دراستي الفلسفية.
نزلنا من السيارة وبدأنا بالسير وسط الزحام، ودخلنا المبنى، المكان به بعض الزوار! الوجوه متنوعة من جميع إنحاء العالم.... وأنا أدفع ثمن تذكرة الدخول لقاطع التذاكر، همست في سري: كيف حولت الحكومة الألمانية هذا البيت الى متحف عريق وانيق يحج اليه مُحبي غوته من كل فج عميق، وكيف نحن نُصدر متاحفنا وتراثنا واثارنا لبلدان الغرب.....!
مرت الدقائق بسرعة وحثني صديقي على المغادرة لانه على موعد مع العمل..... خرجنا دون أن استذوق المكان واكتشف كنوزه جيدًا.....
مضت الأيام وطلبت من احد الشعراء الأصدقاء الذي كان احد ابناء الرعية التي كنت اخدمها في الشام أن يصطحبني إلى متحف غوته، وافق صاحبنا وذهبنا إلى هناك، دون صعوبات وازدحامات الطرق! وكأنه قد آلف الطريق اليه! قلت له: من المؤكد انك تعرف من هو غوته، وقد قرأت له، وتحبه إلى هذا الحد الكبير.... بحيث آلفت الدروب إلى متحفه؟!
صمت الرجل وابتسم، وادركت ان في صمته وابتسامته سرًا! وحين وصلنا المتحف لاحظت شيئًا غريبًا لم الحظه في المرة السابقة، ألا وهو:إنّ المتحف في مكان وفي الرصيف الذي امامه (كازينو- بار). حينها نظرت إليه والتقت عيني بعينه فانفجرنا ضحكًا! وقلت له: الآن علمت كيف تعلمت الوصول إلى هنا..... ضحك صاحبي وقال بلهجتنا العراقية الجميلة:( انتم قسان هل وكت ما يعبر عليكم شيء).
رغم الضحك لكنّني أخفيت ألمي في داخلي، لأن سرّ الزحام كان سببه توافد الكثير من السواح (وليس السياح) إلى البار وليس إلى غوته.
بيت أو متحف غوته أشبه بمعظم المتاحف التي زرتها، ولكن صاحب المتحف (غوته) ليس ككل الأدباء والشعراء. غوته كعطاء الشمعة التي تستشهد دونما انقطاع، فتنير وتدفيء وتلهب..... وأنا من المؤمنين أن قيمة الإنسان تكمن في العطاء، ووزنه بثقل ونوعية عطائه.
غوته موسوعة ابداع، لا يمكن حصر ابداعه، كتب في مجالات كثيرة بعيدًا عن الأدب والشعر، حيث كتب عن الموسيقى، الفن الذي يستهويني، وقد قال لنا الدليل في المتحف أن غوته كلما واجهته الصعاب وكثرت عليه الأحزان ازداد اهتمامه بالموسيقى....
اتعلمون أن غوته العبقري كتب إحدى مقطوعات موزارد الموسيقية شعرًا! ولو كان على قيد الحياة اليوم لقلت له: أن جيوفاني Giovinni Marrdiهو الأفضل والأعظم موسيقيًا حسب رأيي المتواضع.
إنّ ما لفت أنتباهي في المتحف المكتبة الكبيرة، والمرآة العتيقة، وقفت أمامها .... وقلت للذي كان معي: لقد رحل غوته عن دنيانا وبقيت المرآة.... يا لغرابة الحياة!
حينها نطق صاحبي الشاعر وقال: لقد صدق غوته في روايته فاوست بقوله:" صداقات أهل الفكر معدومة لدينا، فاذا وجدت فأن كل منّا يستعملها معولاً لتدمير صاحبه". واضاف صاحبنا الشاعر: لقد دمرتني يا ابانا، لنرحل نحن أيضًا وليبقَ غوته. ابتسمت في وجهه وكان له ما يريد....
غادرنا المتحف وذهب الرجل عابرًا إلى الرصيف الثاني بعد أن دلني الطريق المؤدية إلى محطة الباص لأنه على موعدٍ مع حبيبته في البار.... ابتسمت وقلت له تذكر يا فلان ..... أن غوته كان شاعرًا ومن رواد البار وأن أول فتاة احبها كانت فتاة بار!
لذا املي أن تكون غوته العراق في المانيا.... فانفجرنا ضحكًا.... وذهب كل منا إلى وجهته.
0 comments:
إرسال تعليق