فلسطين هي المحور في العدوان على سوريّة وكل من يحوّر الأمور وفي أي اتجاه وتحت أي مسميّات فهو مخطِيء ومخطّيء في أضعف الإيمان، وكل انتصار تحققه اليوم سوريّة بغالبيّة شعبها العظمى وجيشها وقيادتها داخليّا وخارجيّا هو انتصار لقضيّتنا الفلسطينيّة وإن تأخرت ثماره.
قال الفيلسوف الساخر برنارد تشو: "لم تبلغ بي السخريّة حدّا أن أزور الولايات المتحدة الأميركيّة لأرى تمثال الحريّة"، ولا أعتقد أن السذاجة يمكن أن تبلغ حدّا عند أحد أن يصدّق أن "الملوك والأمراء والشيوخ والخلفاء" وفضائياتهم ومأجوريها من "شيوخ" و"مفكرين" قلقون فعلا على حريّة الشعب السوريّ وعلى الدماء السوريّة التي تُسفك، وكذا الناتو وعلى رأسه صاحبة تمثال الحريّة.
الأمر الطبيعي أن يُشغلنا نحن الفلسطينيين في كل مكان وفي ال-48 ما هو حاصل في العالم العربيّ ليس فقط من منطلق انتمائنا لهذه الأمّة، فقضيّتنا هي المحور ومن هذا المحور تُشتق المواقف والتحرّكات في تشابك وتقاطع مصالح وعْريّ شائك يتيه فيه الضالعون في الأمور فكم بالحري بسطاء الناس.
عودة إلى هذا المحور وانطلاق منه يوصلانا ودون عناء إلى سبر غور ما يبدو مجهولا أو عصيّا على فهمنا وبالذات في هذا الالتقاء الغربيّ- إسرائيلي، التركيّ، العربيّ- ملوكي، الأصولي، وبعض "المعارضيّ" السوريّ وبعض "اللبراليّ" من دعاة حريّة الشعوب الفرديّة ودون أن يرى هذان الأخيران في هذا الالتقاء ولو غضاضة.
هنا تحضرني حكاية من تراثنا الشعبيّ عن:
بلدة سادها إجماع رغم تناقضاتها اللهم إلا "شقيّا" من سكانها عكّر صفو هذا الإجماع، فقرروا بعد يأس من "إصلاحه" ومشاورات مضنية واستفتاء شيوخ واستشارة مفكرين أن يدفنوه حيّا. ألقى "قبضاياتهم" القبض عليه وربطوه على المحمل وساروا فيه بجنازة قلّت مثيلاتها لم يتأخر أحد منهم عن المشاركة فيها. مرّوا أمام شرفة زعيم البلد القاعد فيها يتشمّس ولا علم له براحل في البلد، فصاح فيهم مستغربا مستنكرا تجاهله طبعا:
"من المرحوم؟".
رفع "المرحوم" رأسه صائحا معتقدا أنها فُرجت:
"يا سيدي بدهم يدفنوني حيّ!".
فما كان من الزعيم إلا أن أجابه:
"تريدني أن أصدقك وأكذّب كل هؤلاء؟!".
طبعا لا تخلو جعبة المعارضين ولا اللبراليين دعاة الحريّة الفرديّة من حجج لا تعدّ ولا تُحصى تميط اللثام عن هذه ال و"لو غضاضة" في الالتقاء وإذا أخذنا هذه الحجج مستقلّة لا قبلها ولا بعدها فهي في ظاهر غالبيتها محقّة، ولكني وبكل تواضع كما الكثيرين غيري يرونها وكما قال الراشد عليّ بن أبي طالب "كلام حقّ يراد به باطل"، ولا يستطيعون أن يكونوا جزء من هذا الالتقاء ولو "الصّدفي" على طريقة ونستون تشرتشل "سأتحالف مع الشيطان من أجل مصلحة بريطانيا"، ونرى في ذلك كثيرا أكثر من غضاضة وعلى الأقل ندّعي كوطنيّين قوميّين أن نقطة أساسيّة في انطلاقنا هي القضيّة المحور، قضيّتنا الفلسطينيّة والتي ما زلنا نعتقد، وعلى ما يبدو مخطئين، أنها القضيّة المحور والأولوية لكل العرب والمسلمين. وينبئك بالأخبار من لم تزوّد فلنذكّر لعلّ تنفع الذكرى:
عام 1852 كتب السياسي البريطاني هولنغورت في كتابه اليهود في فلسطين: "إن إقامة دولة يهوديّة في فلسطين هي ضمان حماية طريق الهند".
وعام 1853 كتب الكولونيل شارلز هنري تشرتشل في كتابه جبل لبنان: "إذا كنّا نريد الإسراع في تقدّم المدنيّة وأردنا توطيد سيادة انجلترا في الشرق فعلينا أن نعمل أن تكون سوريّة الكبرى تحت سيطرتنا بشكل ما".
من أشهر أقوال حاييم فايتسمان رئيس المنظمة الصهيونيّة حينها والرئيس الأول لدولة إسرائيل لاحقا: "إن بريطانيا كانت ستخلق الصهيونيّة لو لم تكن قائمة".
وفي المؤتمر الصهيونيّ السادس في بازل عام 1903 قال ماكس نوردو بحضور بلفور ولويد جورج: "نعرف ما تتوقعون منّا، تتوقعون أن نكون حراس طريقكم إلى الهند (إقرأ: مصالحكم) عبر الشرق الأدنى. نحن على استعداد لتنفيذ هذه الخدمة العسكريّة ولكن من الضروري تمكيننا أن نصبح قوة حتى نتمكّن من القيام بهذه المهمّة".
هنا مربط الفرس، فعندما نتكلّم عن المفروغ منه، مصالح الغرب ومطاياهم في الشرق يجب ألا يغيب عن البال أنّ لهذه المصالح قاعدة وهذه القاعدة ليست التي يستضيفها أمراء قطر والبحرين وملوك السعوديّة وخلفاء تركيا، هذه المصالح تُختزل كلّها في وجود القاعدة الأماميّة الثابتة، إسرائيل. وإسرائيل قائمة على أنقاضنا ومن هنا يجب ضرب كل من يحاول رفع أو حتى نفض هذه الأنقاض ولو قولا وكلّ ما عدا ذلك من حريّة وحقوق إنسان وكلام جميل يُشتقّ من هذا المربط.
لقد كشف العماد أميل لحّود الرئيس السابق للبنان في مقابلة مطوّلة خفايا لم تجر العادة أن يكشف مثلها من كانوا في مواقع مسؤوليّة، وتكفي الإشارة إلى ما كشف عن أن مبادرة الملك السعودي عبدالله والتي صارت المبادرة العربيّة بيروت 2002 خلت من أي إشارة إلى حقّ اللاجئين الفلسطينيين، علما أن طيّب الذكر أبو عمّار كان محاصرا في المقاطعة ولم يحضر مؤتمر القمّة، لولا إصرار الرئيس اللبناني رئيس القمّة، مدعوما من الرئيس السوريّ بشّار الأسد على وضع هذا الحق من أسسها، هذا هو معنى للممانعة والمقاومة للمشاريع الأميركو- صهيونيّة، فمقتل إسرائيل هو حقوق اللاجئين، والقدس والحدود وغيرها مقدور عليها. وماتت المبادرة " البوشيّة- العبداللاتيّة" وعلى هذا وعلى غيره "شالوها" للنظام السوريّ ولكن هذه هي نقطة البداية.
وإذا عطفنا هذا على خطط إعادة تأهيل الجيش الإسرائيلي في "تدريبات نقاط التحوّل" السنويّة، فيها يتدرّب على حرب جبهاتها لبنان وسوريّة وإيران وحتى العراق وغزّة والضفة وحتى فلسطينيي ال-48 "مواطني" دولة إسرائيل، يحقّ لنا أن نسأل وأن نتساءل:
هل فعلا حريّة الشعب السوريّ ودماؤه هي القاضّة مضاجع آل كلينتون وآل أشتون وآل سعود وآل ثاني وآل خليفة وآل الصُّباح وآل أردوغان؟!
ويحقّ لنا أن نتساءل ونسأل اللّبراليين دعاة الحريّة الفرديّة (وكأن مثل هكذا حريّة تكتمل دون الحريّة الجمعيّة):
لماذا يغيب عن بالكم وتقللون من دوافع ومعاني هذا التأهيل الذي تقوم به إسرائيل لجيشها، عند الحديث عن سوريّة ؟! أفي هدوء جبهة الجولان الظاهر حجتكم؟!
النظام البعثيّ في سوريّة ليس بريئا "براءة حمام مكّة المكرّمة" وليس كامل الأوصاف ولكن ليست هذه القضيّة في سياقنا، ومن بابين: باب "ديموقراطيّة" البحرين وحدّث فيه ولا حرج، وباب الإصلاحات السوريّة. قانون الأحزاب مثلا الذي أصدره الرئيس الأسد وأقرته الحكومة السوريّة وصادق عليه مجلس الشعب أكثر تطورا من قانون المدلّلة "أم الديموقراطيّات" إسرائيل بكثير، وعلى المدى البعيد القريب سيحدث في سوريّة تغييرا جوهريّا في النظام. فلماذا لا يريد هؤلاء ليس فقط التعامل معه حتى أن يقرأوه لا يريدون؟!
عطفا على ما جاء، لن يدع هؤلاء الأمر ينتهي في سوريّة إن استطاعوا، ولن يستطيعوا، مثلما يريد شرفاء سوريّة في المعارضة وفي النظام وفي الشعب السوري، لأن سوريّة في الأزمة حصانة للقاعدة- إسرائيل وسوريّة في اشتداد الأزمة حصانة أكبر للقاعدة- إسرائيل وسوريّة في عراق ثانيّة كلّ الحصانة للقاعدة- إسرائيل (هذه هي البدائل المنظورة أمام سوريّة)، وستوفر إسرائيل حينها بعض المصروفات في إعادة تأهيل جيشها لإسكان شبابها والعناية بعجزتها، وستُشقّ الطريق للمبادرة "المؤامرة" العربيّة تجاه فلسطين بعد تنظيفها ممّا "علق" فيها في بيروت!
قضيّتنا الفلسطينيّة هي المحور ومن قضيّتنا تُشتق المواقف كانت وما زالت وستبقى، لا بل قضيّتنا هي البوصلة وهي الأولويّة، شاء من شاء وأبى من أبى وليست "علّاقة" كما يحلو للبعض اختزالها. فلا الحكم الأسلامويّ الوهابيّ، المنسّق مع الغرب في لقاءات ومشاورات لندن من السنة الماضية، هو البوصلة وهو الأولوية. ولا الحريّة الفرديّة على الطريقة اللبراليّة الراديكاليّة الغربيّة ومراكزها المُمولة نقدا من صناديق العربان وفكرا من ال-CIA هي البوصلة وهي الأولويّة.
من "يجاهد" ميدانيّا في سوريّة ضدّ الجيش السوريّ وضد القيادة السوريّة بمواقفها وليس بشخوصها وضد غالبيّة الشعب السوريّ (اعتراضيّا: لو كانت غالبيّة الشعب السوريّ ضدّ القيادة كما يتغنى نشازا أعداء سوريّة لزحفت هذه الغالبيّة على القصر الجمهوريّ كما زحفت جماهير مصر وتونس على القصور الجمهوريّة ولا جيش يردها ولا براكين تردها) من يجاهد هكذا إنما "يجاهد" ضدّ فلسطين، ومن "يجاهد" ضدّ سوريّة وقيادة سوريّة فكريّا إسلاميّا تكفيريّا وفكريّا ليبراليّا راديكاليّا إنما يجاهد ضد فلسطين.
المطلوب في سوريّة هو ليس رأس الأسد أو البعث، المطلوب رأس الدولة الموقع والموقف من الأولويّة فلسطين وما تعني وطنيّا ومصالحيّا، ولا أعتقد أن هذا غاب أو يغيب عن بال طفل عربيّ، وأجزم أنه لم يغب ولا يغيب عن بال الوطنيّين من المعارضين السوريّين ولا العرب بعامتهم ونخبهم الوطنيّة الداعمين لمعارضة لا ترى حتى غضاضة في تحالفاتها التشرتشليّة، وهذه الخلاصة صحيحة وبغض النظر عمّا تنتهي الأمور في سوريّة، مع ثقتنا التامّة أنها لن تنتهي إلا كما يحب كل وطنيّ عروبيّ قوميّا كان أو أسلاميّا وكل وطنيّ عروبيّ محافظا كان أو ليبراليّا، وليس هذا من باب التمنّي.
0 comments:
إرسال تعليق