في غرفة جانبيّة انتظرت لدقائق معدودة، غبطة بطريرك أنطاكيا وسائر بلدان المشرق، أغناطيوس هزيم وصل إلى فندقه في "جنيف" سويسرا لزيارة عمل.
قبل سبعة أعوام، في خضم أزمة عصفت بالكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين، ارتأى بعض الغيورين المسيحيين الوطنيين أن ألتقي بالبطريرك العربي ذائع الصيت والسمعة، وبعد أن تواصل معه ذوو الخير أخبرني صديق: "سيلتقي بك في جنيف اذهب إليه، استعرض أمامه تفاصيل الأزمة والتمس منه مشورة ونصيحةً".
بعد دقائق معدودة، وعلى الرغم مما بدا عليه من إرهاق، قابلني. بسمته كانت وادعة، صريحة شقّت طريقها، فصار قلبي قيثارة. بصوت، ربما مثله تكون أصوات الملائكة، رحّب بي وبتواضع بدأ حديثه. حضنني بدفء فأحببته كولد فقد أباه.
أخبرته عن بلادي؛وكيف يُذبح حمامُها في الساحات، عن كنيسة كانت يومًا "أم الكنائس" فلم تعد هي أمنا ولا هي تناصِر. سلبوها من أبنائها؛ "يعقوب" يبكيها ويندبها "عمر"، وفي هيكلها يقهقه منتفع ويتقصّع قاصر.
سمعني بهدوء فجر، تنهّد فمال صليب فلسطين على كتفه. "اسمع يا بنيّ، جاي تطلب منّي المستحيل، إنتو في فلسطين الأصل ما في مبرر لطلبكو الانضمام لكنيسة أنطاكيا، عندكو وإيلكو "إم الكنايس"،عندكو "البشارة" ومنكو "مريم" والمسيح. ما في عنّا "مهد"ولا "قبر وقيامة". من عندكو الحضارة والتاريخ والديانة"، رفع عينيه ودقّها في وجهي، وقال بغضب راهب معلّم:
"ارجع لبلادك اطردوا الغاصب والأجنبي من كنائسكم، حرّروها واسترجعوا أملاككم وأرضكم، فنحن من يجب أن نلتحق بكم ونأتيكم زاحفين شاهدين مؤمنين".
كم كان ذلك "الختيار" حكيمًا وصائبًا.
لقد رحل قبل أكثر من عام وشهد التباسات الفصول وانتحار الأماني.
سأقول ما سأقوله في ورشة سيعقدها "مركز القدس للدراسات السياسية" في عمّان نهاية الأسبوع الجاري وعنوانها "المسيحيون وربيع العرب"، لكنني أكتب اليوم عن فلسطين، ومن باب واقع معيش وسيرورة تراها الأكثرية ولا تعيرها اهتمامًا مؤثرًا، فمصير المسيحيين العرب في فلسطين قد حسم عمليًا، وهم في حالة تشبه ما يصطلح عليه في علوم الأحياء والأنثربولوجيا"نوع في حالة انقراض". تعداد المسيحيين العرب في فلسطين في تناقص مستمر. بعض المواقع شهدت "تبخّرهم" الكامل، وفي مواقع أخرى تجري عملية "التبييض" هذه بوتائر تكفل إغلاق ملف التعايش المشترك تمامًا كما خطّط له من خطَّط (في غزة بقي زهاء ألف وخمسمائة مسيحي فقط. بينما في القدس، بلد القيامة والصليب، يسكن ما يربو عن خمسة آلاف مسيحي).
لقد تنبّه قادة في فلسطين إلى سوء ما يجري، وحاولوا بإجراءات عفوية متفرّقة محدودة التأثير أن يمنعوا السقوط الكامل. برز من هؤلاء الراحل ياسر عرفات، الذي كان يحرص على الحديث عن فلسطين الجامعة. من إشراقاته كان إصراره على تحصين مقاعد انتخابية للأقلية المسيحية في البرلمان الفلسطيني، فأصدر مرسومًا يقضي بتحصيص أماكن مضمونة لنواب مسيحيين من سكان محافظات القدس، رام الله وبيت لحم، ومرسومًا آخر يقضي ببقاء رئاسة بلديات بيت لحم ورام الله لمنتخبين مسيحيين، على الرغم من أن أكثرية سكانها ليسوا مسيحيين. قرار القيادة بتأمين تمثيل قيادي لبقايا المسيحيين في المواقع ذات البعد والمعنى التاريخي، ينم عن قناعة وطنية ومسؤولية تاريخية ذات أبعاد حضارية ثقافية ودبلوماسية.
تلك الخطوة لم تكن كافية لإيقاف التصحر المسيحي. الإبقاء على القرار في زمن الرئيس عباس يدل على إيجابية موقف قيادة فلسطين الوطنية، ولكن استمرار تناقص المسيحيين بشكل واضح ومقلق يتطلب التعرّض بمسؤولية إلى جميع أسباب النزوح، وهي متعددة الأصول والدوافع، والشروع بتفعيل مشروع وطني شامل يحظى برعاية مؤسساتية وطنية عليا قد تضمن وقف النزيف (نزوحًا أم تهجيرًا) وترميم ما كسر من عظام الرقبة.
إلى ذلك، فما دامت فلسطين كلها تعاني حالة اجتماعية واحدة، وتعيش فضاء ثقافيًا متناغمًا، فإن على قادة الجماهير العربية في داخل إسرائيل التكامل مع ما قامت به قيادات فلسطين، والتنسيق للعمل على وضع مشروع وطني مشترك، مبتدؤه دراسة مقترح يقضي ، بأن يُحفظ منصب رئيس بلدية الناصرة لمسيحي أو مسيحية من أبنائها. لا يعنيني في هذا الشأن المكسب الطائفي الكنسي، بل ما سيحقّقه هذا القرار من مردود ومعان وما سترمز إليه هذه الخطوة. فما دامت فلسطين، بكل دياناتها وأطيافها، قد قبلت ما استحدثته قياداتها منذ قريب العقدين في مناطق ٦٧ فلماذا لا يصح ذلك على الناصرة، وهي بلد البشارة والمسيح عليه السلام ومريم التي طهّرها الله واصطفاها على نساء العالمين.
أعتقد أن المحافظة على ما تعنيه الناصرة ليس للمسيحية الكنسية بالضرورة هو أمر جدير بالدراسة والالتفات. الناصرة المسيحية هي محج يجذب الملايين من السواح والزائرين الذين يضخون ما يعتاش عليه ومنه سكانها وسكان محيطها. مسيحية الناصرة تمتد لأبعد من معناها الكنسي الديني، فمدارسها ومستشفياتها ومراكزها التربوية تغتني بذلك الوجود التاريخي الذي تماهى مع المجتمع العربي المحلي وغذّاه وتغذى منه.
وأخيرًا، لا شأن للمقالة بانتخابات الناصرة المقبلة، ولذا أقترح أن تدرس هذه الفكرة برؤية مستقبلية بعيدة عمّا قد يعكر صفوها من شحنات ورواسب تزخر فيها صدور من يدير الدفة وشؤونها اليوم. أكتب وأطلب الرحمة للناصري توفيق زيّاد ولروح ابن الشام الحكيم الذي مات ولم يلحق من الفصول ربيعها ولكل من يريد أن تبقى الناصرة مدينة الربيع والسلام والمحبة.
0 comments:
إرسال تعليق