من يحميني في بلادي؟ من يقيني شرَّ إنسان لا يعرفني ويستعديني. أنا الآخر وهو ابن الجهل والعقل المعقَّم، فمن يا رفاقي يحميني؟ أألجأ إلى نشيد داود الملك، أحقًا سيكون الرب راعيّ ولن يعوزني شيء.
من يحمينا في هذه البلاد؟ أسلِمنا في جليلنا وانتصر ماضينا لحاضرنا فبدأنا نعدُّ عدَّتَنا إلى جنوبٍ حيث أرض الجوع والعطش، إلى نقبٍ حيث علّمت الريح كيف يكتب القصيد وينتصر الخيال على التخيّل، وكيف لبناة أحلامِ الزبد أن يسخروا من ليل طُرفة وأن يشيّدوا صروح الواقع على ما انطمر من أطلال ونحيب عشاق قتلتهم رائحة عشق.
من يحمينا في بلادنا؟ وكيف؟ أفي زيفِ وحدتِنا خلاصُنا؟ أفي تشظِّينا إلى عوائل وحمائل وأسباط وأفخاذ وطوائف ومذاهب سيكون نصرنا؟ أخيمتنا ثقافتنا؟ وما ثقافتنا: ذكورية عربية إسلامية فلسطينية إسرائيلية مسيحية درزية عدمية وطنية قومية شيوعية ديمقراطية؟. برب الميادين، برب الجَد والدم والعفة والسخرية والحب والعطش لا تهزأوا ولا تتعجّلوا، فنحن نغرق بثقافات تجزِّؤنا اليوم أكثر مما مضى، ثقافاتنا هي أغشية وهي عائلاتنا/ حمائلنا/ طوائفنا/ مصالحنا. لذا، لن يكتب لنا فلاح إذا أبقينا هذه الندب مغطاةً بغربال التنكر والمكابرة والكذب، فشعارٌ نردده من إفراط عجزٍ يعلن عن عيشنا المشترك، هو بديل لممارستنا الفعلية للغش المشترك. نحاول فاشلين أن نؤنسن ما لا تجوز أنسنته وندفع ثمن ذلك بالهزائم، والهزائم تغذِّيها الهزائم. فمن يحمينا مما ينتظرنا عند المنحنى؟ لقد أضعنا السقف، فصحونا بلا سماء تحمينا ولا أرض نأمنها لنستأويها.
نحن بلا رؤيا وبلا مرسى وبلا أفق، عطاشًا أمسينا فلجأ بعضنا للسراب وهو زاد من يطوي "النقاب" (جمع نقب). واستعذبنا خبيب الجمل وحزمة إيمان صنّعنا لها مقابض سيوف ورئات من نار.
أقول ما أقول، يا حسرتي، لأنني أستشعر هزيمتي وأخشاها، فكل يومٍ يمر تهوي شجرة ويموت دوري في ساحتي، وكل صفعة ترن توخزني فأصرخ "أنا يوسف يا أبي".
أكاد أسقط عن حصاني كل يوم مرتين، أحاول أن ألجأ إلى وحدتي لأسلم وكتابي لأعرف كم ما زلت جاهلًا فينقصني قبر الموعظة والحكمة والشموخ. فتنتصب قبور الحقد، قبور فينيقيا المجد ولبنان الدم، إخواني في العروبة والسلاح والجهل ضحايا حرب الآلهة وقرابين على مذابح التعصب الذي لا يخلق إلّا وحوشًا، فالتعصب يقتل العقل أولا ويردي بعده الروح ومن هناك جميع دروب ربي سالكة لأنه سيبقى راعيّ ولن يعوزني شيء! .
وللتعصب أصوله وقواعده فهو كبَيتِ عنكبوت يخيطه بصبر وحنكة وغريزة وبتكامل هندسي فذ. وهكذا هو بين البشر، فالتعصب واحد إن كان لبيت أو لعائلة أو لحمولة أو لدين أو لطائفة أو لمذهب أو للجنس. كلها تجلّيات لثقافة موروثة انغلقت على حالها وأماتت عقلها القادر على تأمين عيشها حية تفكر تتساءل تفسِّر تدبِّر وتغيِّر.
هل تصدقني أيها القارئ أنني كتبت كل ما جاء أعلاه بعدما سقطتُ على فوهة جملة، ذكّرتني بأيام كنا، وكان إخواننا في العروبة، نطرب حتى النشوة لسماع "البيان رقم واحد"، حتى وإن جاء يتيمًا ميتم أقوامًا ومتيم ثوّارًا منتصرين باسم الشعب. "لجان شعبية تجتمع لنصرة النقب.." توهّجت المواقع الإخبارية العربية وفرقعت الكلمات. خفت على نظري من حبر تناثر، سواده شديد، أشد من العتمة، وعلى قناة "أوستاكيوس"، يكاد يدكها أزيز "الشين" الزاحف إلى/على النقب. فالأخبار أفادتنا كذلك أن ممثلي تلك اللجان الشعبية جاؤوا من عدة مناطق في بلادنا إلى قاعة مبنى لجنة المتابعة العليا في الناصرة.
ما أزعجني كان ما علق صيدًا في شباك العين. فللنبأ أرفقت مجموعة من الصور بغية تأريخ صادق للاجتماع وطمأنة مهنية موثّقة لما ساده من أجواء شراكة وتحالف وغش مشترك بين مجموعات من القادة. وكما يليق بواقعنا، وكي لا تخدش شهامتنا ولا تحرج أدياننا ولا تمتحن ذكورتنا ولا تنافس قيادتنا، اقتصر الاجتماع على ذكورنا، فذكورنا، وفقط ذكورنا، يصلحون للقيادة والصمود والنضال والتحرير، ومنهم تشكّل اللجان وبهم تكون تلك شعبية، فالشعب شعب فقط إذا انتصبت بينه هذه الحقيقة. ونصرة النقب سيحقّقها، بإذن المولى وهمَّة عبيده المخلصين، رجال قوامون على النساء، رجال لا تبكي، فالبكاء عيب ومذلة للفحولة، ورجال لا تضحك، فالضحك إسفاف ومقدمة "للسخولة". رجال ما تعمدوا في العواصف وما فقهوا أنّنا أمام الموت أحرار ولن نقدر على عدو إلّا إذا كنّا متساوين في الكابوس والحلم والرعشة.
وعليه، أين أميرات أحلامكم يا قادة؟ أين الحرائر، زارعات الورد والأمل في ظلمة صحرائكم الأبدية؟
كيف لكم أن تنصروا نقبًا ولقد استثنيتم من هنّ الأمهات والأخوات والحبيبات والزوجات والبنات ومشتهيات ميراث زمن الوأد وأيام "الحريم".
هل سينصر نقب بأنصافِ سيوف، هل سيروى عطش أرض تنكرون عليها حقّها بالدم تنزفه قربانا في يوم بلوغها أنثى لتصبح رائحة مسكها الطاهر قسم الرجال ومهبط أمانيكم العمودي.
إنه اجتماع قادة متعصبين. ولذا لن يفضي لنصر ولن يحقق إنجازًا، فما يبنى على باطل لن يحصد إلا الباطل، ومن يدوس بعصبية رياحين بساتينه ويهمل رماح داره، لن يحمي خيمة ولن يروي ظمأ نقب كما لم يمنع عطش جليل.
ولأهل النقب وبقائهم أصلِّي، وأدعو الرب راعي أن لا يعوزكم شيء وأن يربضكم في خضر المراعي والبساتين. فداود كان ملكا يحارب ويحب وكان وما زال نبيا يتضرع ويشفع، لا سيما لجنوده الذين ماتوا من أجله ومن أجل مملكته ومن عصبية لا تختلف اليوم فـ"يموت الجنود مرارًا ولا يعلمون إلى الآن من كان منتصرًا".
0 comments:
إرسال تعليق