في ذكرى ولادة الرسول محمد هذه الايام ، تولد الحرية العربية في مصر الكنانة ، كأن التاريخ يقول بان الامة تولد من جديد , فمباركٌ للأمةِ نصرها المبين , ومباركٌ لأبطال مصر هذا المنجز التاريخي المضاهي لبناء الأهرامات وحفر قناة السويس..~
-1-
ليست محاولة فهمنا لهذا الجيل أو فهمه هو لنفسـه بالشاقة فقط ، بل هي تكاد ان تكون مستحيله ، فهو جيلُ " المعجزة " الذي انتضى غضبته ليغير خريطة العالم العربي السياسية " بأيام معدودة فقط " كما حصل في تونس ومصر ، وبشكل لم يكن في الحسبان ابداً ..
جيلٌ يتميز بوعي ٍ دائم التغير ويصعب التكهن بمساره المستقبلي ما يجعله ُ متميزاً عن اجيال سبقته تتسم بــ " ثباتية " الموديل الثقافي نسبياً ..
محاولة فهم دوال رموز الثقافة الخاصة به عبر استقراء معرفي واضح لا بد أن يكون بالغ التعقيد ايضاً ..
فهذا الجيل في حقيقته ينتمي إلى تلاقح أو تزاوج ثقافتين " متناقضتين " :
• إسلامية موروثة " محافظة " ..
• و تحررية ( ليبرالية ) منفتحـة ..
كلتا الثقافتين توافرتا لهذا الشباب بيسر عبر حقبة العولمة وثورة المعلوماتية خلال العقد الاول من هذا القرن ، فالمعلوماتية هي التي سرعت ويسرت تداخل قيم جديدة وافدة مع قيمه الاصيلة الموروثة ..
مشكلة نخب الليبرالية العربية إنها راهنت على إن القيم الثقافية الغربية ستحل بالتدريج محل القيم الإسلامية الموروثة ، وهو رهان متسرع دفعته انتهازية هذه النخب لركوب موجة المشروع الامريكي في المنطقة الذي بدأ بعد هجمات سبتمبر في 2001 ، فالحرية عندما تنفصل عن المشروع الامريكي تكون هناك مشكلة بالنسبة لهذه النخب التي لم تراع إن السواد الاعظم من هذا الجيل كان يبحث عن " هويته الكلية " المفقودة التي اراد أن يتميز بها بعد " صدمة " العولمة بمعزل تام عن المشاريع الغربية في المنطقة ..
فالعولمة عززت لدى هذا الجيل " احترام " الصحوة باعتبار الإسلام هوية كلية جامعة بالرغم من ان هذا الجيل نفسه يمقت تشدد الإسلامويين ..
فالرؤية الحدية اللاعلمية لتطور ذهنية الاجيال من قبل هذه النخب من الطبيعي ان تؤدي بهم إلى التوهم بان الاجيال القادمة ستاتي بالغربنة وتقليد النموذج الغربي بالكامل ، لكن تسارع الاحداث وتاكيد " الثوار " في تونس ومصر على الهوية الوطنية ورفع شعارات ثانوية مضادة لاميركا بالإضافة لشعارات الحرية الاساس ، إنما تضع الكثير من الاستفهامات في دائرة البحث المستقبلي من جديد .. ومنهـا :
ما العلاقة بين الدين والهوية الوطنية بالنسبة لهذه الاجيال الجديدة ؟
-2-
شباب هذا الجيل يحترم الثقافة الإسلامية في نفس الوقت يشعر بانتماء حقيقي إلى ثقافة عالمٍ جديد ، ثقافة خلقتها الحضارة الغربية ، بالتالي ، هذا الجيل لا يزال في طور تكوين " قيم حداثية " إسلامية على غرار القيم التي تسود اليوم لدى شباب هذا الجيل في إيران و تركيا ، وهي قيم ربما تتناقض في بعض خصائصها مع موروث الاولين ..
وما شهدته الثورتين التونسية والمصرية يختصـر العديد من المشاهد التي نحتاجها لنفهم طبيعته وتكوينه الثقافي المركب هذا خصوصاً وان الآراء جميعها اتفقت على فرادة الإتجاه الفكري غير المسيس لـه ، فالمشهد في ميدان التحرير كان كقوس قزح ..
البعض وليس الجميع كان يصلي جماعة ، والبعض كان يغني ويرقص .. !
لم يستطع الإسلاميون ولا اليساريون من إدعاء انتماء الثوار إلى صفوفهم ، إلا إن المفارقة هي " صمت " الليبرالين ذوي الاصوات العالية من إبداء تاييدٍ واضحٍ متحمس كعادتهم في نصرة مشاريع الولايات المتحدة الامريكية في المنطقة كحماستهم للــ " حرية " في العراق وايران ولبنان ..!
فالتوصيف الحقيقي لمبادئ هذه الثورات الشعبية ضد انظمة حكم عميلة للغرب ربما يكون اقرب إلى " الليبرالية " منه إلى اي اتجاهٍ فكري آخر ، لماذا صمت الليبراليون أو لم يبدوا التفاعل المطلوب كالذي ابداه الإسلاميون واليساريون من القضيـة ؟
كان تايديهم عاماً ، بل والبعض منهم في الحوار المتمدن التزم صمتاً غير معهود ، لماذا ينأى منكروا الايديولوجيا عن ثورات بلا ايديولوجيا ، ثورات المطالب الشعبية الممثلة بحقوق إنسانية عامة ..؟
حقيقة ً ، فضحت هذه الثورات النفس المتصهين لهؤلاء ، وهو ما كنا نشير إليه من قبل ، اثبتت ما كان يدرج قبلاً إنها اوهام مؤآمرة ..
فمن تصدوا لما دعي بالليبرالية العربية كانت غاياتهم تركب موجة المشروع الامريكي الغربي ، لكن وحين تتعارض الإرادة الشعبية الممثلة بهذه الثورات مع هذا المشروع يكون التردد واضحاً بل وإظهار بعض الخوف من ركوب الإسلاميين للموجة .. فحتى اللحظة هم مصدومون بإرادة الشعوب التي اعتبروا بان الإسلام سبب اساسي في خنوعها وتخلفها ، لاول مرة يستفيقون على حقيقة إن الشعوب هي الفاعلة المغيرة رغم انف الولايات المتحدة التي ساندت مبارك حتى رمقه السلطوي الاخير ..!
لا ننكر بأن ثورة الشعب العربي التي اطلق شرارتها شباب هذا الجيل يكتنفها بعض الغموض ، ربما تكون مفاجئة للنخب السياسية العامة لكنها على الاقل واضحة المسار بعد حدوثها بالنسبة للنخب العلمية والاكاديمية العربية ، فما ظهر في ميدان التحرير من " وحدة " بين الاقباط والمسلمين اظهر بان المنظومة الإمبريالية وما تدعمه من ديكتاتوريات هي عدو الشعبين المصري والتونسي وكل الشعوب العربية والإسلامية ، بل وكل الامم المقهورة في العالم ..
بالتالي ، وجدت اميركا نفسها مضطرة إلى التخلي عن حليفها " مبارك " في ايام حكمه الاخيرة على الأقل إعلامياً واظهرت دعمها لمطالب الشباب المصري حيناً ووقوفها في المنتصف على مسافة واحدة من الشعب والنظام حيناً آخر.
اميركا تدرك جيداً إنها ثورةُ هذا الجيل وليست ثورة نخبٍ عسكرية او سياسية ، ما يعني ، هذه فرصتها لتكون عرابة " هذا الجيل " عبر البدء في دعمه وقيادته خفية للمضي في مشروعها الكولنيالي في المنطقة باسم الديمقراطية على الاقل كما تعتقد الإدارة الحالية في البيت الابيض ، فهل ستحقق ذلك في ضوء رؤيتها السطحية لشباب العالم الإسلامي " الجدد " الذين يسعون بشكل قاطع إلى بلورة مشاريع وحدوية مع ثورات عربية اخرى كما ظهر من التناغم الشعبي التونسي المصري ؟
خصوصاً وهو تناغم غير مسبوق يتمثل في حصول الشعبين على حرية دون البدء بتاسيس المستقبل ، إذ لا يزال مجهول الملامح ، كأنها طفولة جديدة لم تنضج بعد ..
اميركا لا تزال " تحتقر " هذا الجيل كما احتقره من حكموه حتى هد عروشهم فوق رؤوسهم ، لا تزال تتصور بإمكانية " هندسة " توجهات هذه الطفولة عبر التاثير في بعض الرموز الشبابية للثورة ، لم تدرك حتى اللحظة ما يجري في التاريخ العربي الإسلامي من دخول الأمة في مرحلة " ما بعد الصحوة " ، لا تزال هي ذات الرؤية السطحية التي لاتدرس اعماق هذا الجيل ، الرؤية السطحية ذاتها التي تتبناها الليبرالية العربية بصورة عامة .
-3-
هذا الجيل يمتلك اعتقاداً راسخاً بأن الإسلام لا يتناقض مع العقل ، بل هو اكبر الداعين للمعرفة والتعقل ، واعتقاده هذا امرٌ طبيعي لانه جيلٌ تربى في رحم الصحوة الإسلامية التي حاولت اسلمة العقل ، إلا إن ما يجري من تحول هذا الجيل إلى نبذ الماضي خلفه وإمساك مفاتيح القيادة السياسية لنفسه تعني إن هذا الجيل مقبل على هوية إسلامية حداثية جديدة وهوية قومية موحدة جامعة بحكم التواصل المعلوماتي الذي وفرته له ثورة المعلوماتية التي يستعمل هذا الجيل منها لغة رمزية تكاد أن تكون موحدة من المحيط إلى الخليج ..بقوامٍ اساسي جوهري ممثل باللغة العربية ..
سيناريو منهج الافكار الذي اتوقعه لجيل ولد من الصحوة وسيمثل " افكار ما بعد الصحوة " سيتبنى منهجية اكثر انفتاحاً وغير متشددة ..
لن يكون هناك من داعٍ لرسم الخطوط الحمراء او النطاقات المحرمة التي لا يجوز الخوضُ فيها تحت اي داعٍ او طائل ، مع إن هذا لن يظهر في يوم ٍ وليلة ويحتاج إلى وقت طويلٍ من التحول وقد يخلق مثل هذا المناخ خلال هذا العقد تناقضاً ومشاكل فكرية ، إلا إنها ستنتهي حتماً إلى أن يتقبل العقل الشعبي العام لحقيقة العقلانية كحقيقة اولى تسمو على موروث من " اسقطوهم " ، عقلانية لها القدرة على أن تخترق حواجز الخوف من اللامفكر فيه لدى اجيالٍ سبقتهم ، فاللامفكر فيه سوقته السلطة السياسية ونجحت في ترسيخه ضمن المخيال الاجتماعي العام المنظومة الدينية التابعة لها كالازهر ومشايخ الوهابية أو الحوزات العلمية ، والاجيال التي انضجتها المؤسسات السياسية والدينية القديمة " سقطت " معنوياً ، بل هي اليوم مجبرة على اتباع " ثورة هذا الجيل " ومضيه الناري المتقد القادم كما الطوفان في العالم العربي والإسلامي ..
فالدين في الإسلام هو العقل نفسه ، على الاقل في ظاهـر مفهومات " التفكر " و " التدبر " التي نقرأها دوما في نصوص القرآن والسنة المروية عن الرسول محمد ، اما العقل بالمفهوم الواقعي العصري والذي سيفهمه هذا الجيل بعد حين ، بما يمثله من اداة مركزية في الاستدلال ، فهو متغير مع الزمن لا بمعنى التبدل كما يُفهم هذا خطأ لدى من سبقوه ، بل تغيره صيرورة بمعنى " النمو " والتطور نحو الكمال المطلق .
الصيرورة والتحول سمة مميزة لهذا الجيل الذي لم يعد يعشق الاغاني السلطانية الطويلة على سبيل المثال لام كلثوم ..
لم تعد له رموز فنية او ثقافية " ثابتة " كما هي اجيال الماضي ، رموزه في تحول وتطور دائم ومن الصعب ايجاد " ام كلثوم " معاصرة يمكنها ان تحتل ذائقته الفنية لاكثر من سنة ان لم تكن اشهراً او اسابيع ..
هذا مجرد مثال بسيط ، العقل برمته لدى هذا الجيل يمتاز بتغير المواقف والحيوية الفاعلة ، وقد تجلى هذا في ثورة الشباب والشعب المصري ضد نظام مبارك ..
فكل يوم يتاخر فيه نظام مبارك عن تقديم تنازل ، يجعل من " هذا الجيل " يتقدم إلى مطالب جديدة ..
هناك فجوة حقيقية ساحقة وغير متدرجة بين هذا الجيل والاجيال التي تمسك بالسلطة السياسية ، اما الثقافية والدينية فستبدأ معركة هذا الجيل معها بعد ان يكون امسك بزمام السلطة في عموم العالم العربي والإسلامي ...
صحيح أن لم تبدأ معركة هذا الجيل لتاسيس عقلانية جديدة بعد .. لكنها قريبة جداً وستبلغ ذروتها نهاية هذا العقد على ما اتصور ....~
0 comments:
إرسال تعليق