مرحلة جديدة هبت أعاصيرها على المنطقة العربية، بعد أن هبت جموع شباب الأمة تقول كلمتها، وتطالب بحريتها من ربق أنظمة جثمت على صدور الحريات منذ عقود طويلة، أعاصير لم تطال مصر وتونس فقط بل طالت كل المنطقة العربية، وغيرت المفاهيم التي كانت سائدة، وأصبحت منطقتنا ومفاهيمنا ذات معالم مختلفة عن الماضي.
بدأنا نسمع كلمات كنا نفتقدها ، بل كانت محذوفة من قاموسنا العربي مثل الرئيس السابق، والحرية، والديمقراطية، ودولة مدنية، ومحاربة فساد...إلخ من المصطلحات المتعددة.
هذه الحالة عمت كل بقاع الوطن العربي المتنوعة ببيئاتها ومناخاتها السياسية، وأنظمتها الحاكمة، وعليه فلابد من رؤية ومنطق آخر في التعاطي مع مرحلة ما بعد ثورة الشباب.
فلسطين جزء من هذه المنطقة والأمة، وعليه فهي تخضع لكل عوامل التغيير التي تخضع لها دول المنطقة، برغم الظروف الخاصة التي تمر بها فلسطين إلاّ أنه من غير المنطقي والمقبول التفاعل سلبياً أو طوباوياً مع هذه التفاعلات والمستجدات السياسية، والاجتماعية بل يتطلب التعامل مع منعكاساتها بما يناسب المشروع الوطني الفلسطيني، فالأوضاع الحالية تتطلب الهدوء والروية في قراءة المشهد من كافة مناحية وجوانبة، وانعكاساته، والتروي في قراءة الاستراتيجيات السياسية القادمة ووضع السيناريوهات الملائمة والمناسبة لهذه التطورات سواء على صعيد السياسة المحلية الفلسطينية، أو بالعلاقات مع الكيان الصهيوني، وكذلك على المستوى الإقليمي والدولي.
فالقراءات السابقة والتخبط السياسي الذي كان عنوان سائد في الفهم السياسي الفلسطيني يتطلب إعادة النظر فيه جذرياً وبشكل عميق وجوهري.
فالقضية الفلسطينية أو المشروع السياسي الوطني لا يمكن التعامل معه بردات فعل، وخطوات احترازية شكلية يتم اللجوء إليها مع كل تطور في منطقتنا الشرق أوسطية، أو العربية، بل لابد من التعامل مع المتغيرات بنظرة جذرية ومفصلية وفق تخطيط استراتيجي مرن يتعامل مع المستجدات والتطورات، ويتوفر لنا كل الظروف المناسبة والقدرات والإمكانيات التي تؤهلنا وتمكننا من ذلك.
فالخطوات التي أعلنت عنها السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية محلياً مثل إعادة تشكيل حكومة تصريف الأعمال، والإعلان عن إجراء الانتخابات المحلية والتشريعية في ايلول القادم، ما هي سوى خطوات شكلية بدائية تنم عن قصر نظر في السياسة الفلسطينية، وتهميش لحجم المتغيرات التي حدثت في المنطقة وتقزيم للسياسات العامة بعد ثورات الشباب.
كما أن الدعوات التي انطلقت بشكل انفعالي عاطفي بتمزيق اتفاقيات أوسلو، ما هي أيضاً سوى دعوات لا تعبر بأي حال عن بُعد نظر أو فهم سياسي لمتطلبات المرحلة والمتغيرات، أو فهم لطبيعة التحالفات الدولية والإقليمية الحالية، وقراءة خاطئة وطوباوية للأوضاع المحلية الفلسطينية بتركيبتها القائمة، حالها كحالة الدعوات التي أثيرت أخيراً بإثارة الشباب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية للإنتفاض على الأوضاع القائمة بشكل عشوائي يحقق مطامع فريق هنا وفريق هناك، أي أن هذه الدعوات حق يراد به باطل تحاول استغلال الشباب الفلسطيني في تحقيق أجنندة حزبية قادتنا للهاوية وتكاد تؤدي بمشروعنا الوطني للإندثار في مستنقع الحزبية والتلاشي من خارطة المنطقة.
فنحن اليوم أمام واقع مغاير ومختلف يتطلب استنهاض الشباب الفلسطيني لتجديد وعيه الثوري الذي اضمحل وتراجع بفعل الانقسام السياسي وأثاره السلبية، استنهاض وطني وليس حزبي يقوده الشباب دون أي أجندة حزبية أو تدخل من قوى الانتهازية السياسية التي تحاول اجترار ساحتنا الفلسطينية لمزيدأص من الإنقسام، ومزيداً من التهاوي في أجندة غير فلسطينية.
فالمشروع الوطني الفلسطيني في ظل المتغيرات الحالية يحتاج لفهم واعِ، ورؤى أكثر وطنية يتحلى بها قريقا الإنقسام ترتكز على قاعدة التوافق والمصالحة الفاعلة والحقيقة بين كل قوى وشرائح المجتمع، وهذا الفعل لا بد أن ينطلق من قوى المجتمع المدني الفلسطيني، بالضغط والثورة ضد طرفي الإنقسام معاً، كما ويتطلب الأمر بذل مزيداً من إعادة الإعتبار للإنتماء الوطني الفلسطيني، ولفظ الأداء الوظيفي للأجندة الخارجية التي تتبناه قوى الإنقسام الفلسطيني، فعلى حركة حماس ممثلة بحكومتها في غزة أن تعود لرشدها الوطني وتسمو وتعلو عن مشروعها الحزبي ضيق الأفق الذي وضعت من خلاله شعبنا الفلسطيني في بطنها، وأصبحت تبحث عن قوى مساندة على الطريقة الميكيافيلية الغاية تبرر الوسيلة، وتعود للشعب الفلسطيني الذي نصبها على رأس النظام السياسي بانتخابات شرعية انتهت مدتها القانونية، بعيداً عن سحر الخداع المستتر بإسم المقاومة وشعارات الاستغباء التي يمارسها المسترزقون من الأقلام والشعارات التي تعيد إنتاج نفس الشعار منذ أربعة سنوات، وهو ما ينطبق كذلك على السلطة الوطنية في رام الله التي يتوجب عليها إعادة النظر في مجمل سياساتها التفاوضية التفريطية، وتعاملها الأمني مع قوى شعبنا الفلسطيني، وإعادة النظر في الشخوص الذين يمثلون السياسة الفلسطينية داخلياً وخارجياً، وإمتهان الكفاءة المهنية باختلاف مشاربها وألوانها، ولفظ حالة الاستعماء التي يتم وفقها التعامل مع عقلية الحزب الواحد.
أما منظمة التحرير الفلسطينية والتي تحدثنا وتناولنا وجودها وكيانها كثيراً، فلا زالت تعاني من شيخوخة تكاد تؤدي بها للإحتضار، وذهبت كل دعوات إعادة الحياة لها هباء منثوراً، ولا زالت مسروقة من فريق يريد لها الاحتضار في غرفة العناية المركزية، لتحقيق مصالحهم وغاياتهم.
فاليوم منظمة التحرير الفلسطينية أمام لحظة فارقة تاريخياً ووطنياً بأن تعيد إنتاج الكيان الفلسطيني وصياغته برؤية وطنية فلسطينية معبرة عن الحقوق الوطنية، وهذا لن يتأتى دون الفعل الحقيقي ضمن برامج جديدة، وسياسات جديدة، وقيادات جديدة منفتحة سياسياً، تزيح عواجيز الفرح والتآمر الذين لازالوا يقودنا بعقلية القرون الوسطي المغلقة على الذات.
إذن فاليوم نحن أمام مفترق سياسي وطني خطير يتطلب العمل على كل الجبهات المركزية والأساسية، هذه الجبهات لن تحقق شيئاً دون الإنطلاق من أرضية صلبة هي الأرضية الوطنية المحلية التي تعتبر ركيزة أساسية لأي نجاح يمكن ان يحقق في اتجاهات أخرى، يكون أولى خطواته الوحدة الوطنية الضمان الوحيد للنهوض بالمشروع الوطني الفلسطيني، وإستنهاض روح الشباب الثوري القادر على قيادة هذا الفعل الذي وأده الإنقسام، والفساد معاً من قبل طرفي الصراع الفلسطيني.
أما السياسات والاستراتيجيات الأخرى فلا يمكن الإنطلاق بها دون إنجاز الوحدة الداخلية بإطار تصالحي اجتماعي شمولي يتجاوز أثار الإنقسام وتداعياته سياسياً، واجتماعياً ووطنياً، يمكن من لخالها صياغة توجهاتنا السياسية في مواجهة إسرائيل من جهة، والمتغيرات والتحولات في المنطقة من جهة أخرى.
فالمتطلبات الوطنية الفلسطينية لا يمكن أن تحقق أي تقدم أو تغيير بمجرد إعادة تشكيل حكومة تصريف الأعمال في رام الله، أو الإعلان عن انتخابات محلية وتشريعية، من قبل الرئيس محمود عباس، أو التعنت المقيت الغريب لحركة حماس في مواقفها من المشروع الوطني برمته، وإصرارها على استمرار إنقسامها غير المبرر والمقنع وطنياً، وكل ما تسوقه حول ذلك ما هو سوى مجرد شعارات تستتر خلفها لاستكمال مشروعها الحزبي الضيق، وتخبطها المراهق سياسياً.
فنحن أمام متطلبات اساسية ومركزية لابد من إنجازها لنستطيع إنجاز المتطلبات الفرعية الأخرى المتعلقة بالبعد الإقليمي والدولي. وهو لن يتحقق دون العودة للشعب الفلسطيني لتحديد مصيره والتعبير عن إرادته السياسية.
0 comments:
إرسال تعليق