خمس سنواتٍ تفصل بين عملية الوهم المتبدد البطولية التي نتج عنها أسر جلعاد شاليط، وبين صفقة التبادل الثلاثين بين المقاومة الفلسطينية والعربية وبين سلطات الاحتلال الإسرائيلي، التي تم بموجبها تحرير أكثر من ألف أسيرٍ وأسيرة من كل أرجاء الوطن فلسطين، ومن مختلف السجون الإسرائيلية، وكما كانت عملية الوهم المتبدد سابقةً مميزة في سجل المقاومة الفلسطينية، لم يكن يتوقعها أو يتخيلها قادة أركان الجيش الإسرائيلي، إذ استطاعت ثلةٌ من المقاومين الأبطال، من رجالات غزة الذين سيحفظ التاريخ اسمهم، وسيخلد الزمان ذكرهم، وسيبقون مفخرة المقاومة، ورموز الشجاعة والإقدام، أن تهاجم رتلاً من الآليات العسكرية الإسرائيلية، فأربكتها وشلت قدرتها ومنعتها من الحركة، فهرب الجنود مذهولين خائفين جزعين، إلا أن أفراد المجموعة الفدائية الذين تمكنوا من تشتيت جمع الآليات المدرعة، وتفريق الجنود المدججين بالسلاح، قتلوا بعضهم قبل أن يعتلوا ظهر دبابة ميركافا ويخرجوا منها جلعاد شاليط، الذي بدا مذعوراً خائفاً، وقد كان للتو يمطر أطراف غزة بوابلٍ من قذائف دبابته اللعينة، التي عرفت بأنها الأضخم والأقوى.
اليوم وفي ظل التحرير والوفاء للأسرى والمعتقلين نستذكر عملية الوهم المتبدد، التي استطاع من خلالها مقاومونا البواسل أن يبددوا وهم الجيش الإسرائيلي، وأن يميطوا اللثام عن زيفه وخداعه، ويعروا حقيقته، ويثبتوا أنه ليس جيشاً أسطورياً، وأنه بالإمكان هزيمته، وإلحاق أشد الخسائر به، وأن الجندي الإسرائيلي جنديٌ جبانٌ رعديدٌ خوافٌ مسكونٌ بالرعب، وأنه لولا الحديد الذي يسربله ويحيط به، ولولا الدبابة المحصنة التي سكنها، والتقنيات المتطورة التي تصاحبه، والأقمار الصناعية ووسائل المراقبة التي تتابعه وتراقبه وتضمن سلامته، وتحذره من مواطن الخطر والمسالك الوعرة، ولولا الطائرات الحربية والحوامات العسكرية التي تمهد له بقصفها وتدميرها واستهدافها لكل متحركٍ ومشبوه، ما كان لهذا الجندي أن يدعي الشجاعة والقوة والتفوق، وأن يعتقد بأن جيش بلاده لا يقهر ولا يهزم، ولا يعرف في المعارك خياراً غير النصر، ولكن أبطال الوهم المتبدد استطاعوا أن يوقظوا الجندي الإسرائيلي من سباته، وأن ينبهوه من غفلته، وأن يكشفوا له كذب قيادته، وخداع مسؤوليه، كما أثبتوا له قوة المقاومة، وجرأة وجسارة رجالها، وبينوا لهم عزم المقاومة الذي لا يلين، وثباتها الذي لا يتزعزع، وأهدافها التي لا تعرف الصعوبة أو الاستحالة.
بدد الأمل واليقين بالنصر، وهم العدو الإسرائيلي بالقضاء على أحلام وآمال الفلسطينيين، ومنعهم من التفكير في الحرية والعودة والتحرير والاستقلال، وظن أن قوة جيشه ستقوى على سحق إرادة الأمة، وقتل روح القتال فيها، فكانت عملية الوهم المتبدد أبلغ رسالة لجيش العدو الإسرائيلي، فهي في الوقت الذي صنعت فيه النصر، وأوقعت في صفوف العدو هزيمةً وخسارة، فقد أسست لأملٍ جديدٍ، وحلمٍ آخر، فقد مضى على بعض الأسرى في السجون الإسرائيلية ما يزيد على ثلاثين عاماً، وعشراتٌ منهم قضوا فترة تزيد عن المؤبد، وقد عجزت الاتفاقيات السياسية، ومفاوضات السلام عن الإفراج عنهم وإعادتهم إلى بيوتهم، إذ تمسك بهم العدو، ورأى أنهم قد أهانوا كيانهم، وقتلوا المئات من جنودهم ومستوطنيهم، ومرغوا أنوفهم بالتراب، فكان من الصعب أن يتخلى عنهم، فجاءت المقاومة لتبدد أوهامهم، وتعلمهم أن حساب البيدر يختلف، فما تخطط له في قواعدها وثكناتها ومراكزها الأمنية يسقط في الميدان، ولا يستطيع أن يثبت في مواجهة شعبٍ لا يقبل بالاستسلام، ولا يرضى بالهوان، ولا يستسيغ العيش وشبابه في السجون وخلف القضبان.
يخطئ قادة الكيان الإسرائيلي عندما يظنون أنهم بصفقة الأحرار قد طووا ملف الأسرى، وأنهم لن يجدوا أنفسهم مضطرين لإعادة فتحه من جديد، وأن المقاومة الفلسطينية اكتفت بما حققت، وأنها بعد هذا الإنجاز العظيم ستنام ملء جفونها، وستضحك ملء شدقيها، وستقضي أيامها في احتفالاتٍ ومهرجاناتٍ وتهاني ومباركات، وأنها ستنسى من بقي في السجون، وستسكت عمن استعصت عليه الحكومة الإسرائيلية ورفضت الإفراج عنهم، إنها واهمةٌ جداً إذا ظنت أن الفلسطينيين قد اكتفوا بالغنيمة التي عادوا بها، فهذا وهمٌ قد بددناه، وذاك وعدٌ قد قطعناه أننا سنواصل الطريق، وسنتم المشوار، وسنرسم البسمة على بقية الشفاه، وسندخل الفرحة إلى كل القلوب، وستعانق بقية الأمهات أولادها الذين لم يفرج عنهم في صفقة الأحرار، وسيلتقي من بقي من الأسرى مع أولادهم وفلذات أكبادهم، وسيعودون من جديد إلى صفوف المقاومة ليفتتوا أكباد العدو الإسرائيلي، فهذا ما أثبتته كل الصفقات التي سبقت، فما استكان محرر، ولا ندم أسير، ولا ألقى البندقية وتخلى عن المقاومة أي معتقلٍ سابق.
الأمل في هذه الأمة لا يموت، لأنه جزءٌ من عقيدتها، وأساسٌ في دينها، فهذه الأمة لا تعرف اليأس ولا تعيش مع القنوط، ولا تستسلم لغير الله سبحانه وتعالى ومنه تستمد الأمل واليقين، فهذا وعد الله الخالد لها بالنصر والتمكين، ولكن مع العمل والعطاء والتجرد والصدق والإخلاص، فنحن أمةٌ كتب الله لها العزة والنصر، فلا تخيفها الدعايات والخزعبلات ومحاولات التأثير والتضليل والخداع، ولا يردعها عن أهدافها عظم الخسائر، وغزارة الدم، وكثرة الشهداء، وتزايد عدد الأسرى، وإمعان العدو في تخريب بيوتنا، وتقويض بنياننا، وإفساد حياتنا، فما لدينا من الأمل أكثر بكثيرٍ من أوهامه، وما عندنا من يقينٍ كفيل بأن يبدد كل أوهامه وأحلامه، فمع كل هذه السنين مازالت القضية الفلسطينية هي قضية الأمة العربية والإسلامية المركزية، لم تنفض من حولها الأمة، ولم تتخلى عن دعمها ومساندتها، ومازالت تقدم لها كل غالٍ ونفيس، وتضحي من أجلها وفي سبيل استعادة أقصاها ومقدساتها، فالأمل في هذه الأمة باقٍ ويتجدد، ووهم العدو يتبدد كل يوم، وتظهر حقيقته وتنكشف للأمة والعالم سوءته، وإنا على هزيمته لقادرين، وفي الطريق إلى إساءة وجه ماضين، تأكيداً لوعد الله الخالد "إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُئُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا".
0 comments:
إرسال تعليق