زينب الحصني حكاية مروعة.. فهل يهتز لها الضمير العالمي؟!/ محمد فاروق الإمام

لم يتبادر إلى ذهني للحظة من اللحظات أن سورية الحضارة والتاريخ.. سورية التي أهدت إلى البشرية أول أبجدية عرفها الإنسان.. سورية التي احتضنت حضارات تضرب جذورها في أعماق أعماق التاريخ لأكثر من سبعة آلاف سنة، تحكي رقي الإنسان السوري ومدنيته.. سورية التي انطلقت منها جحافل الفتح الإسلامي التي وصلت حدود الصين والسند والهند وأسوار فينا وباريس، لتحرر الناس من عبادة الإنسان إلى عبادة الواحد الديان.. سورية التي كانت منارة تهدي إلى العالم الحب والسلام والأمن والاطمئنان والعلم والمعرفة، وتنبه إلى قيمة الإنسان وعلو منزلته، وتحض على احترام حريته وصون كرامته.. أقول لم يتبادر إلى ذهني في لحظة من اللحظات أن تتحول سورية الجميلة بفسيفسائها العرقي والديني والطائفي والمذهبي السندسي الجميل المتعايشة في سلم أهلي فريد، وربيعها الفواح بشذى عطر خمائلها الوارفة الظلال، إلى غابة تفوح منها رائحة الدم التي تخلفها قطعان الوحوش الكاسرة والضباع الجائعة والذئاب المتعطشة لسفك الدماء، وأشباه البهائم من الرجال آكلي لحوم البشر ترتع في جنباتها، دون رادع إنساني يرق لهم أو يشفق لحالهم وهم الأعزاء أبناء الأعزاء!!
ستة أشهر دموية تُلاك فيها لحوم السوريين والسوريات لم تشبع الضواري الهائمة في ساحات وميادين وشوارع وأزقة وزنكات وأحياء المدن والبلدات والقرى السورية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ووسطاً.. لم ترو هذه الأشهر الستة بأيامها المئة والثمانون ظمأ المتعطشين للدماء الذين انفلتوا من عقالهم بلا حساب أو رقيب، والعالم عرباً وعجماً لا تتحرك لديهم جارحة أو يرف لهم جفن وهم ينظرون إلى لحم الحرائر المسلوخ وعظامهم المكسورة وأطرافهم المبتورة ورؤوسهم المقطوعة وكأن قلوبهم قدت من جلمود وجوارحهم وأحاسيسهم فاقت الدب الكسلان بلادة.
ستة أشهر ودماء السوريين تتفجر أنهاراً.. ولحوم أجسادهم تلاك وتلفظ في القمامة بقاياها.. ولا نسمع من الشرق والغرب والعرب والعجم إلا كلاماً تذروه الرياح لا صدى له ولا تفعيل على الأرض، تدفع آكلي البشر في سورية إلى الإيغال في فعلهم المجنون والتمادي في سفكهم للدماء تعيد إلى الأذهان ما حدث في سرليون وساحل العاج وكمبوديا.
حكاية الفتاة الحمصية زينب الحصني ذات التاسع عشر ربيعاً تحكي بعض فصول المأساة التي يعيشها الشعب السوري في فلذات أكبادهم، وقد سلخ جلدها وبترت أعضاؤها وفصل رأسها عن جسدها وأحرق وجهها البريء.. وقد سبقها قصص وقصص وحكايات وحكايات لم ترو لنا بطون التاريخ شبيهاً لها حتى في ظلمات القرون الوسطى ومحاكم التفتيش والنازية والفاشية، ولما تجف بعد فصول مأساة تعذيب الطفل حمزة الخطيب وبتر أعضائه التناسلية وحفر أخاديد في جسده، وحكاية بلبل العاصي إبراهيم قاشوش وقد انتزعت حنجرته ولاكتها أنياب الذئاب الحاقدة ليليها قصص وحكايات لا تقل بشاعة عنها ولعل قصة زينب أبشعها، ولم يكن مصابنا في حمزة الخطيب وإبراهيم قاشوش وزينب الحصني نهاية المطاف، فهناك المئات من هذه الحالات وقد يكون الآلاف ممن سجلوا في حالات اختفاء، قد تكشف الأيام القابلة بعض خيوط نسيج بقايا أعضائهم إن لم تكن أحرقت أو ألقيت في البحر.
ولابد لنا من أن نروي حكاية الفتاة الحرة زينب الحصني التي وقعت بأيدي شبيحة الأسد ورجال أمنه عندما داهموا بيتها بحثاً عن شقيقها الشاب محمد بسبب نشاطه في المظاهرات السلمية وعمله الدؤوب في إسعاف الجرحى غير آبه بزخات الرصاص التي كانت تستهدفه وتستهدف من يسعف من رفاقه، وكان ذلك صبيحة اليوم الثاني من أيام رمضان حيث اقتحموا بيت محمد بوحشية، ولما لم يجدوه اقتادوا شقيقته العفيفة الطاهرة إلى جهة مجهولة، وبعد خمسة أيام من اختطافها، اتصلت فتاة بأهلها وقالت إن زينب هي بيد رجال الأمن وأنهم مستعدون لتسليمها مقابل استسلام شقيقها المطلوب محمد، وحددوا مكاناً ضمن أحد الأحياء الغير آمنة فساومهم الأهل على مكان آخر في قلب المدينة، ولكن المتصلة أقفلت سماعة الهاتف وبقيت الأسرة ومنذ ذلك الحين لا تعرف عن مكان ابنتها أي شيء، وفي الثالث عشر من شهر أيلول فجعت الأسرة بنبأ استشهاد ابنهم محمد على يد رجال الأمن والمخابرات أثناء العملية العسكرية على حي بابا عمرو في حمص، يوم العاشر من أيلول، فتوجهت الأسرة لاستلام جثمان ابنها الشهيد الذي كان يرقد في ثلاجة المستشفى العسكري بحمص، وأثناء تواجد الأسرة في المستشفى علموا بطريق الصدفة عن تواجد فتاة في التاسعة عشر من عمرها في ثلاجة المستشفى فسارعت الأسرة المكلومة لتقصّي الخبر، لكنهم في البداية لم يستطيعوا التعرف على ابنتهم زينب لقد بدت مقطوعة اليدين من الكتف مقطوعة الرأس وقد أحرق وجهها، وكان واضحاً على ظهرها آثار التعذيب والحروق التي غطت جسدها كله.
لم يسمح لتلك الأسرة المفجوعة أن تستلم جثمان ابنتهم التي تعرفوا عليها أخيراً إلا بعد التوقيع على إقرار بمنعهم من تصوير الجثمان وبمنعهم من إقامة جنازة يحضرها الناس، وبالفعل فقد حملت الأسرة المكلومة جثمان شهيدتهم زينب لتدفنها في مقبرة باب السباع في جمع صغير من الحاضرين أقتصر على أسرتها وبعض الأقارب، لكن وبعد مغادرة المشيعين سارع الشباب إلى نبش القبر وتصوير تلك الجريمة البشعة التي يندى لها جبين الإنسانية وتتبرأ منها كل ما يمت إلى البشر من صلة، لتضاف إلى آلاف الوثائق التي تدين هذا النظام وتعريه وتدفع برأسه مكبلاً بالأصفاد إلى قفص الاتهام بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ويُنادى عليه يا قاتل الحرائر والأطفال.. فيرد (حاضر سيدي...).
ستظل زينب الحصني وحمزة الخطيب وإبراهيم القاشوش وأشباههم ممن مرت عليهم قطعان آكلي البشر في سورية، تحكي الصفحة الظلامية التي عاشتها سورية في ظل حزب البعث القائد للدولة والمجتمع.. وتروي حكاياتها جيلاً بعد جيل!!

CONVERSATION

0 comments: